مرت أسابيع على الإعلان الرسمي عن إقامة مصنع “هيونداي” في الجزائر، باستثمار قُدّر بـ 400 مليون دولار بالشراكة مع مجموعة سعود بهوان العُمانية، وهو خبر أثار صدى واسعا في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية. فبعد سنوات من الاضطراب في سوق السيارات، جاء هذا المشروع ليعيد النقاش حول مستقبل الصناعة الميكانيكية في البلاد، وليطرح في الوقت نفسه أسئلة عميقة تتجاوز حدود الإعلان الأولي. فالمواطن يتساءل عن انعكاساته على الأسعار وفرص العمل وقبل ذلك هل سيكون أحد الحلول التي ستنهي أزمة السيارات في الجزائر، والخبراء ينظرون إلى أبعاده الإقليمية، فيما تبقى التحديات قائمة حول مدى قدرة الجزائر على تحويل هذا الاستثمار إلى رافعة حقيقية لاقتصادها.
منذ الإعلان عن دخول “هيونداي” إلى ساحة التصنيع المحلي، عاد الأمل للمواطنين الذين أرهقتهم أزمة السيارات المستمرة لسنوات. فقد شهدت السوق ندرة خانقة وارتفاعا غير مسبوق في الأسعار، جعل الحصول على سيارة جديدة حلما بعيد المنال بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع. ولهذا بدا خبر المصنع الكوري بمثابة نافذة تنفّس لآلاف الراغبين في امتلاك مركبة بأسعار معقولة.
لكن الترقب الشعبي يقابله سؤال جوهري: هل سيؤدي هذا الاستثمار فعلا إلى خفض الأسعار في المدى القريب؟ الواقع يشير إلى أن التكاليف المرتبطة بالاستثمار الضخم، إلى جانب متطلبات التشغيل والانطلاق، قد تجعل الأسعار مستقرة نسبيا في البداية، من دون أن يعرف السوق انخفاضا كبيرا ومباشرا. غير أن المعادلة قد تتغير إذا ارتفع حجم الإنتاج تدريجيا وتوسعت قاعدة التصنيع المحلي، بما يسمح بتقليص تكاليف الاستيراد.
العامل الأكثر حسما في هذا الملف قد يكون المنافسة. فوجود أكثر من علامة مصنِّعة، مثل “فيات” و”هيونداي”، سيدفع نحو إعادة تشكيل السوق المحلية على أسس أكثر تنافسية، وهو ما من شأنه أن يخلق ضغطا باتجاه تخفيض الأسعار وتحسين الخدمات، وهو ما ينتظره المستهلك الجزائري منذ سنوات طويلة.
غليزان على موعد مع آلاف المناصب الجديدة
لم يكن البعد الاجتماعي غائبا عن النقاش منذ الإعلان عن المشروع، فمصنع “هيونداي” يُرتقب أن يوفّر آلاف مناصب العمل المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يجعل ولاية غليزان على موعد مع تحوّل اقتصادي واجتماعي جديد. فالمنطقة التي طالما بحث شبابها عن فرص تثبيت وجودهم، قد تجد في هذا المشروع فرصة حقيقية لتقليص البطالة وضخ ديناميكية جديدة في سوق العمل المحلي.
قيمة هذه الوظائف تقاس بالعدد وبطبيعتها واستدامتها. فهل ستقتصر على أعمال تركيب وتجميع بسيطة، أم أنها ستُفضي إلى تكوين كفاءات جزائرية مؤهلة قادرة على قيادة خطوط الإنتاج مستقبلاً؟ هنا يكمن التحدي الأكبر، إذ أن بناء قاعدة صناعية متينة يتطلب الاستثمار في التكوين ونقل التكنولوجيا، وليس الاكتفاء بخلق مناصب آنية سرعان ما تتلاشى عند أول أزمة.
الرهان الحقيقي سيتضح في حال تمكّن المصنع من خلق شبكة من المناولين المحليين، أي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في تزويده بالقطع والمستلزمات. حينها فقط ستتشكل دورة اقتصادية متكاملة، تمتد آثارها من غليزان إلى مختلف ولايات البلاد، وتمنح المشروع بعدا استراتيجيا يتجاوز مجرد افتتاح مصنع جديد.
الجزائر بوابة هيونداي نحو أسواق إفريقيا
اختيار الجزائر لاحتضان مصنع “هيونداي” جاء في سياق رؤية أوسع للشركة الكورية لتوسيع حضورها في القارة الإفريقية. فالموقع الجغرافي للجزائر، المتصل بشبكة طرق كبرى وموانئ بحرية استراتيجية، يجعلها نقطة ارتكاز مثالية للوصول إلى أسواق القارة التي تعرف نموا متزايدا في الطلب على السيارات.
لكن تحويل المصنع إلى قاعدة إقليمية للتصدير لن يكون مهمة سهلة، إذ يتطلب تحقيق جودة تنافسية وأسعار قادرة على مواجهة منتجات آسيوية وأوروبية سبقت إلى الأسواق الإفريقية. وهنا تكمن أهمية الاستثمار في التكنولوجيا والتصنيع المحلي، بما يضمن إنتاج سيارات قادرة على إقناع المستهلك الإفريقي من حيث الجودة والسعر في آن واحد.
في حال نجح هذا الرهان، فإن المكاسب لن تقتصر على الجزائر وحدها، بل ستتعداها إلى تعزيز صورتها كقطب صناعي صاعد في المنطقة. فوجود مصنع “هيونداي” قادر على التصدير نحو إفريقيا سيمنح الجزائر ورقة إضافية في تعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، وهو ما يتماشى مع توجهاتها الدبلوماسية الرامية إلى ترسيخ دورها كفاعل محوري في إفريقيا.
من الوعود إلى الواقع… أي مستقبل ينتظر مصنع هيونداي؟
رغم الحماس الكبير الذي أثاره الإعلان عن مصنع “هيونداي”، إلا أن المشروع يواجه جملة من التحديات التي لا يمكن تجاهلها. فمن أبرز هذه التحديات ضمان استقرار التموين بقطع الغيار، وتطوير شبكة من الموردين المحليين، إلى جانب ضرورة الحفاظ على استمرارية الطلب في السوق الجزائرية حتى يكون المشروع قادرا على بلوغ طاقته الإنتاجية المرجوة.
كما أن ذاكرة الجزائريين ما تزال مثقلة بتجارب سابقة لمصانع سيارات توقفت فجأة أو لم تحقق الوعود المعلنة، وهو ما جعل الرأي العام يستقبل خبر “هيونداي” بجرعة من التفاؤل المشوب بالحذر. هذا الإرث من الشكوك يفرض على السلطات والشركاء تقديم ضمانات أوضح حول استدامة المشروع وآلياته، لتفادي تكرار سيناريوهات الماضي.
ومع ذلك، فإن الآفاق المستقبلية تبدو واعدة إذا ما تم ربط المشروع بسياسات صناعية واضحة المعالم، تضع التصنيع المحلي كأولوية وتخلق بيئة تنافسية شفافة. في هذه الحالة، يمكن أن يتحول مصنع “هيونداي” من مجرد استثمار أجنبي إلى نقطة تحول حقيقية في مسار الصناعة الجزائرية، بما يعزز مكانة البلاد كقطب إقليمي في صناعة السيارات.