المغرب… اقتصادٌ وانجازات على الورق واحتجاجاتٌ على الواقع

المجهر

في بلد تُصاغ فيه المؤشرات بلغة وردية على الورق، بينما يكتب الشارع أرقامه الخاصة بالغضب، تتكشف معالم مفارقةٍ صارخة بين خطاب رسميٍّ يتغنّى بـ”النموذج التنموي الجديد”، وواقعٍ اجتماعيٍّ يئن تحت وطأة الغلاء والبطالة وتآكل الطبقة الوسطى. لم تعد الشعارات تكفي لستر الفقر، ولا العروض الدعائية قادرة على امتصاص غضبٍ شبابيٍّ انفجر من رحم الإقصاء، مطالبًا بالحد الأدنى من الكرامة. هكذا تحوّل “التحول الاقتصادي” الذي وعد به المخزن إلى “تحولٍ احتجاجي” يقوده جيلٌ رقميٌّ يرفع لافتاتٍ بسيطة لكنها قاطعة: “الصحة أولًا… ما بغيناش كأس العالم”. إنها معادلة المغرب الجديد: أرقامٌ تُدهش الخارج، واحتجاجاتٌ تُفاجئ الداخل.

أرقامٌ تُزيَّن في الموازنات… وواقعٌ يئنّ تحت الغلاء والبطالة

رغم الوعود المتكرّرة بـ”الإقلاع الاقتصادي” و”التحول الهيكلي”، تكشف المؤشرات الرسمية نفسها هشاشة البنية الاقتصادية المغربية. فالبطالة تجاوزت 12.8%، وأغلب الوظائف تُستحدث في قطاعاتٍ هشة، بينما ثلثا اليد العاملة يشتغلون في الاقتصاد غير الرسمي بلا تغطيةٍ اجتماعية أو حمايةٍ صحية.

ومع الارتفاع المستمر في الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، باتت الأسر المغربية تستهلك أكثر مما تكسب، وتعتمد على القروض لسدّ الحاجات الأساسية. هذا الواقع لم يعد يُغطّى بلغة الأرقام، لأن المواطن بات يشعر بالهوة بين ما يُكتب في التقارير وما يُعاش في الأسواق.

المديونية الخارجية التي بلغت مستوياتٍ قياسية، والضرائب غير المباشرة التي تُنهك جيوب الطبقة الوسطى، أفرزت واقعًا اجتماعيًا متفجّرًا، خصوصًا مع تراجع الخدمات العمومية. فالمدرسة العمومية تحوّلت إلى عبءٍ بدل أمل، والمستشفيات أصبحت رمزًا للفشل المؤسساتي، ما جعل فئاتٍ واسعة تشعر بالتهميش والخذلان. إنها أرقامٌ تُلمّع في المؤتمرات الدولية، لكنها على الأرض تتحوّل إلى فواتيرٍ لا يستطيع المواطن تسديدها.

جيلٌ رقميٌّ غاضب… بين وعود التنمية وواقع التهميش

في مواجهة هذا الانفصام بين الخطاب والواقع، خرج جيلٌ جديد إلى الشارع، لا تحرّكه الأحزاب ولا النقابات، بل تجربة يومية من الفقر واللا مساواة. “جيل زد 212” هو ترجمة حية لغضبٍ تراكم عبر السنين، شبابٌ وُلد في ظل الأزمات، وفتح عينيه على الإنترنت، لا على الشعارات التقليدية. انطلقت الدعوات من “ديسكورد” و”تيك توك”، لكنها وصلت بسرعة إلى الميادين، حاملة شعاراتٍ غير مسبوقة، اختزلت الأزمة في جملةٍ واحدة: “لا صحة لا تعليم، هذا مغرب الله كريم”.

هذه الموجة كانت إعلانًا عن ولادة وعيٍ جديد يربط بين الحق الاقتصادي والحق في الكرامة، ويرى أن التنمية الحقيقية لا تُقاس بعدد الملاعب أو الأبراج، بل بعدد المستشفيات والمدارس. وبينما استثمر المخزن المليارات في تنظيم كأس العالم 2030 وتجميل الواجهة الخارجية، وجد نفسه أمام شبابٍ يسائل الأساس قبل الواجهة، والإنسان قبل الصورة.

عجزٌ داخليٌّ يُصدَّر للخارج… وحملة فبركة تسقط أمام الوعي

وفي لحظة عجزٍ سياسي واقتصادي، اختار المخزن أن يوجّه دفة الانتباه نحو الخارج، فابتكر وهمًا جديدًا تحت وسم “GenZ213”، زاعمًا أن الجزائر مقبلة على حراكٍ شبابي مشابه. لكن هذا التكتيك الدعائي سرعان ما سقط أمام التحقق الرقمي والسخرية الشعبية، إذ اكتُشفت الحسابات المفبركة والصور المزيفة في ساعاتٍ قليلة، لتتحوّل الحملة إلى دليلٍ إضافي على مأزقٍ داخليٍّ يُدار بالتمويه بدل الإصلاح.

في المقابل، قوبلت هذه الفبركة بوعيٍ جزائريٍّ حادٍّ، إذ سارع الجزائريون إلى تفنيد الأكاذيب عبر المقارنة بين واقعين لا يلتقيان: جزائرٌ ترفع الأجور وتمنح منحة بطالة وتشيّد السكن، ومغربٌ يرفع الشعارات ويلاحق المحتجين. هكذا اصطدم التضليل المغربي بجدارٍ من الوعي والسيادة الاجتماعية، ليعود صدى الحملة إلى مصدره الأول… دولةٌ تحاول أن تُخفي عجزها الاقتصادي خلف فبركةٍ إعلامية لا تُقنع أحدًا.