المقاولاتية الإعلامية في الجزائر… حين يتحول الصحفي إلى رائد أعمال

بعيون الخبراء

شهد العالم تزايدًا ملحوظًا في مشروعات المقاولاتية الإعلامية مع اندماج التكنولوجيا الرقمية بوسائل الإعلام التقليدية، مما قلل الحواجز أمام دخول المبدعين والإعلاميين إلى عالم ريادة الأعمال.

وفي الجزائر التي ظلت وسائلها الإعلامية تقليدية، بدأت تظهر مؤشرات لولادة مشهد جديد يعتمد على روح المبادرة والابتكار.

وتسعى هذه المقالة إلى تقديم رؤية شاملة للفكر المقاولاتي في الإعلام الجزائري، مع بحث النماذج العالمية، واستعراض التحديات المحلية، ودور الجامعات، واقتراح الاستراتيجيات الفاعلة لدعم المؤسسات الإعلامية الناشئة.

التفكير في تنظيم المشاريع المبتكرة الناشئة في قطاع الإعلام

يرمز الفكر المقاولاتي إلى مجموعة من المهارات والتوجهات التي تمكّن الأفراد من اكتشاف الفرص، والابتكار، والمخاطرة المحسوبة، وإيجاد قيمة في بيئات غير مؤكدة. يتسم هذا الفكر بالاستباقية، والسعي المستمر إلى تحسين الأمور وحل المشكلات بطرق جديدة، والتعلم من التجارب السابقة.

وفي سياق الإعلام، يُحَثّ الصحفيون والمهنيون على «التفكير خارج نطاق الصحفي الموظف»، بأن يروا أنفسهم رواد أعمال محتملين داخل مؤسساتهم أو كأصحاب مشاريع قائمة بذاتها. فعلى سبيل المثال، يتعامل الصحفي المبدع مع المحتوى الإعلامي على أنه «منتَج أو خدمة» يستلزم جذب الجمهور وتحقيق إيرادات مستدامة.

وإلى جانب الجوانب الإبداعية، ينبغي على المقاول الإعلامي التسلّح بحدّة فطنة تجارية، والتساؤل جوهرياً عن جماهيره ونموذج العمل الأنسب لتحقيق الربحية والانتشار. ويستهدف هذا النهج تأهيل الإعلاميين – سواء المنضمين لمنصات قائمة أم المنطلقين بأفكارهم – إلى اعتناق عقلية ريادية تدفعهم دوماً إلى التجديد ومواجهة الواقع الإعلامي بمرونة وحماس.

نماذج تنفيذية نموذجية للمقاولات الإعلامية على المستوى العالمية

ينشط المقاولون الإعلاميون في جميع أنحاء العالم ضمن نماذج متنوعة تكسبها طابعاً مبتكراً. فهناك المشاريع الصحفية المستقلة التي تقوم على إنتاج محتوى أصلي يهم جمهوراً خاصاً، مثل مواقع الأخبار الرقمية أو المجلات الإلكترونية أو قنوات البودكاست، وتعتمد في تمويلها على الإعلانات الرقمية أو الاشتراكات أو التبرعات.

كما تظهر شركات الوسائط الناشئة التي تطوّر منصّات تقنية جديدة – مثل تطبيقات البث أو أدوات تحليل الأخبار – وتسعى لاستقطاب تمويل استثماري خارجي لدعم نموها.

بالموازاة، برزت المشاريع الاجتماعية وغير الربحية الإعلامية الهادفة، والتي تركز على رسائل مجتمعية (مثل الصحافة الاستقصائية حول حقوق الإنسان) وتعتمد على منح وجمع تبرعات للمساهمة في استدامتها.

ولم تفت قرن التقنيات الحديثة: فـ«صحافة البيانات» تستخدم تحليلات ضخمة لتقديم قصص عميقة مبنية على أرقام، في حين أن تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز ولّدت شركات إعلامية غامرة تقدّم تجارب تفاعلية لجمهورها.

وتنتشر كذلك نماذج تمويل متعددة بديلة عن الإعلان التقليدي. فإلى جانب الإعلانات والراعي التقليديين، بدأت الأنظمة المدفوعة للمستهلك (الاشتراكات، والجدران النَّقدية، والدفع مقابل المحتوى) تشكل مصادر دخل شائعة. كما توفّر فعاليات حية أو ورشات مدفوعة، إضافة إلى الخدمات المتميزة (كتقارير الأبحاث المتخصصة أو قواعد البيانات الإعلامية)، وسياسات الرعاية للشركات، قنوات إيرادات إضافية للمؤسسات الناشئة. تعكس هذه النماذج العالمية حاجة رواد الأعمال الإعلاميين إلى الإبداع والمرونة لتأسيس مصادر دخل مستدامة في ظل البيئة الرقمية المتسارعة.

واقع تطبيق المقاولاتية الإعلامية في الجزائر

تشهد الجزائر حاليًا مرحلة مبكرة لتنامي فكر ريادة الأعمال عامةً والإعلامية خاصةً. فقد وضعت الحكومة هدف دعم 20 ألف شركة ناشئة بحلول عام 2029، كما أن صندوق التمويل الجزائري (ASF) يوفر برامج تسريع وتمويل للمؤسسات الناشئة في مختلف القطاعات.

ورغم تركيز الحكومة على القطاعات التقنية مثل الذكاء الاصطناعي والمالية الإلكترونية، تتماشى هذه الجهود مع نمو النظام البيئي لشركات الإعلام الرقمية على المدى الطويل، خاصة مع تزايد انتشار الهواتف المحمولة واحتياج قطاعات المجتمع إلى محتوى إعلامي متخصص بلغات محلية (كالأمازيغية) وبأشكال مبتكرة (فيديو، صوت، تفاعلية).

كما توفر التغيرات الراهنة فرصة لإطلاق منصّات تشجع صحافة المواطنين والمحتوى التعليمي وإلى تطوير آليات للتحقق من المعلومات في مواجهة ظاهرة الأخبار الزائفة.

وكانت الثورة الرقمية قد منحت زمام المبادرة لعدد من تجارب إعلامية جزائرية صاعدة. فظهرت في العقد الثاني من الألفية الجديدة مواقع إخبارية مستقلة أسسها صحفيون، من قبيل “TSA” و”Interlignes”، لتقديم تغطية متنوعة. ومن أبرز النماذج المحلية الناشئة منصة Twala التي انطلقت عام 2022 بنموذج اشتراك، لتصبح أول جهة إعلامية جزائرية تموّل نفسها بالكامل من قرّائها، في خطوة غير معهودة تعكس استكشاف طرق تمويل جديدة في السوق المحلية.

ومثال آخر راديو JOW Radio (2018)، وهو إذاعة رقمية تقدم برامج مسجلة وقابلة للتنزيل على الهواتف، وقد نجحت بسرعة في جذب مستمعين ومعلنين عبر هذا الابتكار في شكل الخدمة الإذاعية. تعكس هذه النماذج تأثر رواد الأعمال الإعلاميين الجزائريين بالممارسات العالمية (كالاشتراكات والدفع عبر الإنترنت) وسعيهم لتكييفها مع احتياجات جمهورهم.

التحديات التي تواجه تطوير المقاولاتية الإعلامية في الجزائر

على الرغم من الإيجابيات السابقة، تعترض الطريق أمام المؤسسات الإعلامية الناشئة في الجزائر معوقات عدة على النواحي التنظيمية والمالية والسوقية.

تمويل وإيرادات محدودة: تعتمد معظم وسائل الإعلام التقليدية في الجزائر – خصوصًا المطبوعة – على الإعلانات العمومية التي تسيطر عليها الدولة (من خلال المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار ANEP)، ما يجعل أي منافس جديد يواجه سوق إعلان مقفل أو متحيّز. ونتيجة لذلك، يعاني كثير من المؤسسات الإعلامية المستقلة شحًا حادًا في التمويل؛ إذ إن رأس المال الاستثماري المحلي لا يزال ضئيلاً، وتقتصر مصادر مالية البدء غالبًا على المدخرات الشخصية أو الدعم الضئيل من مستثمرين محليين.

بنية تحتية محدودة: شكّل التأخر في إرساء خدمات الدفع الإلكتروني عائقًا إضافيًا؛ فغياب بنية موثوقة للدفع عبر الإنترنت يُعقّد تطبيق نماذج الاشتراك أو المحفظة الإلكترونية، وهو أمر بقي حتى إطلاق بوابة «DZ MOB PAY» (2025) في طور المعالجة. إضافة إلى ذلك، فإن صعوبة الحصول على قروض مصرفية نتيجة نقص الضمانات والضبابية التنظيمية، تزيد العبء المالي على المشاريع الناشئة.

سوق وجمهور متطلب: يُواجه الرواد الإعلاميون في الجزائر أيضًا تحديًا في الجمهور والسوق، فتنوع المجتمع ثقافيًا ولغويًا (عربي، أمازيغي، فرنسي) يعني الحاجة لإنتاج محتوى متنوع يلائم الجميع، بما يرفع من تكلفة الإنتاج. كما أن الجماهير الجزائرية اعتادت على محتوى مجاني متاح عبر الإنترنت، وتفتقر إلى ثقافة الدفع مقابل الأخبار، وسط انخفاض عام في القوة الشرائية. وهذه الظروف تجعل من الصعب على المؤسسات الجديدة استقطاب عائدات كافية حين تنافس وسائل تقليدية مدعومة إعلانيًا من الدولة.

نقص المهارات الإدارية والتقنية: أخيرًا، يُعاني العديد من رواد الأعمال الإعلاميين الناشئين من فجوة في الخبرات الإدارية والتكنولوجية. فقلة برامج الإرشاد والتدريب المناسبة تعني أن الفريق المؤسس قد يفتقر إلى مهارات ضرورية في إدارة المنتجات أو التسويق أو التقنيات الرقمية، مما يحد من قدرة المؤسسة على النمو والاستمرارية.

دور مؤسسات التعليم العالي الجزائرية في تعزيز ونشر الفكر المقاولاتي لدى طلبة الإعلام

تلعب الجامعات ومعاهد الإعلام الجزائرية دورًا حيويًّا في غرس ثقافة ريادة الأعمال لدى جيل الصحفيين المستقبلي. فقد بدأت وزارة التعليم العالي في تشجيع دمج ريادة الأعمال في المناهج الدراسية الإعلامية، وإتاحة شهادة «مشروع مؤسسة ناشئة». كما أُسست مراكز حاضنة للمقاولاتية في معظم الجامعات (بما في ذلك 84 مركزًا وطنيًا أُعلن عنها عام 2023)​، تعمل كمسرعات للأفكار وتحويلها إلى مشاريع تجارية.

ويمكن لكليات الإعلام استثمار هذه المبادرات بإضافة وحدات عن إدارة المؤسسات الإعلامية وتطوير المشاريع الداخلية، مما يمكّن الطلاب من صياغة خطط عمل واقعية وتنفيذ محاكاة للمشاريع الناشئة أثناء دراستهم.

إلى جانب ذلك، يمكن للجامعات إنشاء مختبرات إعلامية مجهزة تتيح للطلاب والخريجين تطبيق أفكار المحتوى على أرض الواقع، واستضافة ورش عمل ومسابقات ومؤتمرات تواصل تربط بين الطلاب وخبراء ريادة الأعمال والمستثمرين في مجال الإعلام. فعلى سبيل المثال، يمكن تنظيم منتدى خاص بقطاع الإعلام يجمع مبادرات الشباب ويدعم تبادل الخبرات.

كما يُعزّز التفاعل الدولي مع برامج مثل WAN-IFRA أو مبادرات شبكة المحررين العالمية (GEN) من فرص الاطلاع على أفضل الممارسات وتسريع نمو المؤسسات الناشئة الجزائرية​.

في المجمل، فإن تمكين الجامعات من احتضان روح المبادرة الإعلامية وإشراك القطاع الخاص فيها يسهم في تحضير كوادر إعلامية متمكّنة قادرة على إطلاق مشاريع ناجحة بعد التخرج.

استراتيجيات تطوير ودعم المقاولاتية الإعلامية بالجزائر

لمواجهة التحديات وتعزيز فرص رواد الأعمال الإعلاميين، ثمة مجموعة من الاستراتيجيات الرئيسة المقترحة:

إصلاح الإطار السياسي والتشريعي: تخفيف القيود التنظيمية التي تعيق تأسيس ودعم المؤسسات الإعلامية الناشئة. ويشمل ذلك تعزيز شفافية سوق الإعلان العمومي (مثل جعل عملية توزيع الإشهار العمومي عبر مؤسسة ANEPعادلة، واستحداث حوافز ضريبية أو منح حكومية للمشاريع الإعلامية الجديدة، وإعادة النظر في قانون الإعلام لتيسير التمويل الأجنبي المشروط وحماية حرية التعبير.

تعزيز آليات التمويل: فتح قنوات تمويل مخصصة للإعلام المبتكر. ويمكن إدراج المشاريع الإعلامية ضمن أهداف صناديق دعم الشركات الناشئة الحالية، مع تبني برامج حاضنات متخصصة تمولها الدولة أو الشراكات الدولية. كما ينبغي تشجيع الجهات الدولية والوكالات التنموية (مثل اليونسكو وبرامج التنمية) على تقديم منح تقنية أو تدريبية لإعداد رواد الإعلام. وفي نفس الوقت، يمكن إنشاء نوادي استثمارية خاصة تركز على قطاع الإعلام والإبداع (بما في ذلك جذب مستثمرين محليين) لفتح قنوات تمويلية جديدة. ولا يقل أهمية تحديث البنية التحتية للدفع الإلكتروني ودعم التجارة الإلكترونية كي تتمكن المؤسسات الناشئة من جمع الاشتراكات والمدفوعات بفاعلية.

تطوير نظام بيئي داعم (حاضنات وشبكات): يجب إنشاء برامج حاضنة وتسريع مخصصة للإعلام تسمح لمجموعة من المبادرات بالعمل ضمنها لعدة أشهر للحصول على الإرشاد وتحسين خطط الأعمال. كما تشكل المختبرات الإعلامية الجامعية وجهات مهمة ليعمل الطلاب والخريجون على إطلاق أفكارهم الواقعية. وإضافة إلى ذلك، تُنظم الملتقيات والمعارض المتخصصة لرواد الأعمال في مجال الإعلام المنتظمين (مثل منتديات المقاولاتية والإعلام) تسهم في تبادل المعرفة وإقامة شراكات، بما في ذلك ربطها بمؤسسات عالمية تدعم الابتكار الإعلامي​.

الابتكار وتدريب نماذج الأعمال: ينبغي أن تعتمد المؤسسات الناشئة على نماذج اقتصادية مرنة ومتنوعة. فبالإمكان مثلاً المزج بين الإعلانات والاشتراكات، وإطلاق فعاليات مدفوعة أو خدمات رقمية متقدمة، وكذلك استقطاب رعاية مضمونة من الشركات مقابل محتوى مدعوم يحافظ على استقلالية التحرير. وفي ضوء ذلك، يظل بناء المهارات التجارية ضروريًا. لذا يُنصح بتوفير برامج تدريب وورش عمل تتناول التسويق الإعلامي المبتكر، وتنمية الجمهور، والتخطيط المالي والإداري للمشاريع الإعلامية. كما يمكن لرابطات الصحافة والمنظمات الدولية المتخصصة تقديم ورش حول أفضل النماذج التشغيلية والإبداع في مجال الإعلام المستدام.

يُظهر الواقع الجزائري أن المقاولاتية الإعلامية ما زالت في مراحلها التأسيسية، إلا أنها تحمل بوادر واعدة. فزيادة الاتصال الرقمي واتساع قاعدة المستخدمين، إلى جانب اهتمام حكومي بتحقيق اقتصاد مبتكر، كلها عوامل تساعد على إنجاح مشاريع الإعلام المبتكرة. وفي الوقت نفسه، لا تزال التحديات التنظيمية والتمويلية واللوجستية قائمة. ومع ذلك، فإن الاستفادة من التقنيات المتطورة والتركيز على جودة المحتوى وإيجاد أشكال عمل جديدة تعطي الأمل بأن المؤسسات الإعلامية الناشئة الجزائرية ستتمكن من غنى التنوع الذي تضفيه على المشهد الإعلامي. وبذلك، يمكن لهذه المؤسسات أن تلعب دورًا محوريًا في مسار التحول الاقتصادي والاجتماعي في البلاد وتحقيق التنمية المستدامة المرجوة للمستقبل.