تبون في سلوفينيا… نحو تنويع الشركاء وتعزيز النفوذ

تحليل

في أول زيارة من نوعها إلى أوروبا الشرقية منذ عقود، حلّ رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون ضيفا على جمهورية سلوفينيا، فاتحا بذلك صفحة جديدة في مسار العلاقات الجزائرية مع هذا الجزء من القارة العجوز. زيارة تحمل في طياتها دلالات سياسية واقتصادية تتجاوز البعد الثنائي، لتعبّر عن تحول استراتيجي في السياسة الخارجية الجزائرية، يقوم على مبدأ تنويع الشراكات والانفتاح على فضاءات جيوسياسية كانت هامشية في الحسابات الدبلوماسية التقليدية للجزائر.

ويبدو أن هذه الخطوة تنبع من وعي متزايد لدى الجزائر بأهمية إعادة إحياء الروابط القديمة مع دول أوروبا الشرقية، التي كانت شريكة فاعلة في دعم حركات التحرر الوطني خلال القرن الماضي، وفي مقدمتها الجزائر. فقد شكّلت تلك العلاقات، خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، أحد ركائز السياسة الخارجية الجزائرية التي اتسمت بالتوازن والانفتاح، قبل أن تعرف فتورا تدريجيا مع تغير الأولويات الدولية والإقليمية.

لكنّ السياق الدولي الراهن، الذي يشهد تحولات متسارعة على مستوى موازين القوى، أعاد خلط الأوراق وفتح أمام الجزائر فرصا دبلوماسية جديدة. فمع تراجع الثقة الأوروبية في بعض مزودي الطاقة التقليديين، وبروز الحاجة إلى شراكات استراتيجية بديلة، وجدت الجزائر في هذه اللحظة فرصة لإعادة تموضعها في المشهد الأوروبي من بوابة سلوفينيا، البلد العضو في الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن، والحليف المحتمل في ملفات متعددة على رأسها الطاقة والدفاع عن القضايا العادلة.

وعلى هذا الأساس، جاءت زيارة الرئيس تبون إلى ليوبليانا كترجمة عملية لهذا التوجه الاستراتيجي الجديد، الذي يراهن على توسيع دائرة الشركاء خارج الأطر التقليدية.

خطوة نحو إعادة التواصل

وشكّلت العاصمة السلوفينية المحطة الأولى في هذا المسعى، حيث حظي الرئيس الجزائري باستقبال رسمي يعكس أهمية الحدث لدى الطرف المضيف. فوسط ساحة الكونغرس الشهيرة، عزف النشيدان الوطنيان، ووُضع إكليل من الزهور على نصب شهداء الحرب، في لحظة رمزية تؤكد تقاطع الذاكرة التاريخية بين بلدين عرفا معنى المقاومة من أجل السيادة.

وخلال سلسلة من اللقاءات الرسمية، جمعته مع رئيسة الجمهورية ناتاشا بيرتس موسار، ورئيس الوزراء روبرت غولوب، ورئيسة البرلمان، طرح الرئيس تبون رؤية الجزائر الجديدة لعلاقات قائمة على مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مع التأكيد على دعم القضايا الدولية العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تلاقت حولها مواقف البلدين داخل مجلس الأمن.

ولم تكن الزيارة سياسية الطابع فقط، بل تخللتها مبادرات اقتصادية مباشرة، أبرزها إشراف تبون على افتتاح منتدى الأعمال الجزائري-السلوفيني، الذي جمع رجال أعمال ومسؤولين اقتصاديين من الطرفين. وقد مثّل المنتدى فرصة لاستكشاف مجالات التعاون الممكنة، خاصة في قطاعات الطاقة المتجددة، الرقمنة، والصناعات الصيدلانية، حيث أبدت الجزائر استعدادها لتكون شريكا موثوقا في تلبية حاجات أوروبا، خصوصًا في ظل المتغيرات الطاقوية العالمية.

هذا الانفتاح المتبادل لم يكن معزولا عن التحولات العميقة التي تعرفها العلاقات الدولية، وجاء في سياق البحث عن توازنات جديدة أكثر تنوعا واستقرارا. ومن هنا، تبرز أهمية ما يمكن أن يبنى على هذه الزيارة من شراكات تتجاوز اللحظة البروتوكولية نحو تعاون فعلي على المدى البعيد.

الجزائر وسلوفينيا..آفاق تعاون

وفي مقدمة المجالات الواعدة، يبرز قطاع الطاقة كعنوان أول للتكامل الممكن، خاصة وأن الجزائر تُعد أحد المزودين الموثوقين للغاز الطبيعي في السوق الأوروبية، في حين تبحث سلوفينيا عن مصادر بديلة وموثوقة تقلّل من تبعيتها للغاز الروسي. وقد أعربت القيادة السلوفينية عن اهتمامها بتعزيز الربط الطاقوي مع الجزائر، سواء عبر مشاريع ثنائية أو من خلال شراكات إقليمية تضم دولا مجاورة مثل المجر وكرواتيا.

كما تم التطرق إلى فرص الاستثمار المشترك في مجالات التكنولوجيا النظيفة، وصناعة الأدوية، والسياحة العلاجية، وهي مجالات تتماشى مع توجه الجزائر نحو تنويع اقتصادها وتشجيع الاستثمار الأجنبي المنتج. في هذا السياق، عُرضت أمام المستثمرين السلوفينيين حوافز الاستثمار الجديدة التي توفرها البيئة القانونية والمؤسساتية الجزائرية، خصوصا في المناطق الصناعية الجنوبية.

وبعيدا عن الاقتصاد، لا تخلو الشراكة الجزائرية-السلوفينية من إمكانات ثقافية وعلمية. فقد تم التأكيد على أهمية تبادل الخبرات في مجالات التعليم العالي والبحث العلمي، إلى جانب إطلاق برامج للتوأمة الجامعية والتبادل الأكاديمي. وهو ما يعزز من بناء علاقات ناعمة توازي العلاقات الرسمية، وترسّخ حضور الجزائر في الفضاء الأوروبي من خلال أدوات القوة الذكية والتواصل الحضاري.

وبهذا الزخم الدبلوماسي والاقتصادي، تكون الجزائر قد فتحت بابا جديدا في علاقاتها الخارجية، عنوانه العودة المتوازنة إلى فضاءات غابت عنها طويلا، لا من باب الاستعراض، بل بمنطق الشراكة الفاعلة والمتكافئة.

إن زيارة الرئيس تبون إلى سلوفينيا تمثل إشارة سياسية واضحة إلى أن الجزائر بصدد رسم مسار خارجي جديد، يتجاوز الثنائيات الكلاسيكية، ويؤسس لحضور متعدد الاتجاهات، من إفريقيا إلى أوروبا، ومن العمق المغاربي إلى المجال المتوسطي والبلقان. ومع بداية هذه الديناميكية الجديدة، تبقى الكرة في ملعب الدبلوماسية الاقتصادية ومؤسسات الاستثمار، لترجمة هذا الانفتاح إلى مشاريع ملموسة وشراكات دائمة ترسّخ موقع الجزائر كقوة توازن إقليمي وشريك موثوق دوليا.