خرج صندوق النقد الدولي، الذي لطالما ارتبط اسمه في الذاكرة الجزائرية بإجراءات التقشف وشروط “الإصلاحات المؤلمة”، ليمنح الجزائر شهادة غير مسبوقة في حق اقتصادها: إشادة واضحة بالنمو خارج المحروقات، وتراجع التضخم، وتحسن مناخ الاستثمار.
التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس بعثة صندوق النقد في الجزائر، شارالامبوس تسانغاريدس تعتبر “شهادة من أهلها”. والمؤكد أنها لم تأت من فراغ، وإنما هي نتيجة مباشرة لإصلاحات حقيقية قادها الرئيس عبد المجيد تبون، أجبرت الصندوق على “قول ما لا يُراد قوله”.
من التوصيات القاسية… إلى الاعتراف بالنجاحات
في التسعينيات، وبينما كانت الجزائر تواجه أزمة اقتصادية خانقة، وقّعت اتفاقا مع صندوق النقد الدولي سنة 1994، أدى إلى تطبيق برنامج التقويم الهيكلي. تمّ بموجبه التخلي عن سياسة دعم بعض المواد الأساسية، وإغلاق أكثر من ألف مؤسسة عمومية صغيرة ومتوسطة. هذه المرحلة تركت جروحا اقتصادية واجتماعية عميقة ما زال صداها حاضرا في الوعي الشعبي والمؤسساتي.
وعلى مدى سنوات، لم يتغير كثيرا خطاب الصندوق، حيث ظلّ يُلح على “تقليص الدعم”، و”تحرير الاقتصاد”، و”فتح الأسواق”، وهي توصيات وُوجهت بانتقادات واسعة محليا، باعتبارها لا تراعي الخصوصية الاقتصادية والاجتماعية للبلد على غرار ما حدث في عام 2017، أين حث الصندوق الجزائر على خفض الإنفاق العام وتشديد السياسة النقدية، ملوّحا بـ”المخاطر المحتملة” إن لم يتم اتباع مسار تقشفي صارم.
لكن اليوم، يبدو أن شيئا كبيرا قد تغيّر. فالصندوق ذاته يُثني على سياسات الجزائر، ويؤكد أن “الآفاق الاقتصادية على المدى القصير إيجابية”، وأن “القطاعات خارج المحروقات ما تزال نشطة”، في اعتراف يحمل أكثر من مجرد إشادة: إنه انقلاب في الموقف.
“إصلاحات تبون” تُغيّر المعادلة… وتجبر الصندوق على الاعتراف
ومنذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، تبنّت الجزائر رؤية اقتصادية جديدة تقوم على “استرجاع السيادة الاقتصادية” دون اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، مع تعزيز الاستثمار الوطني والأجنبي وتبسيط الإجراءات. ولعلّ أبرز هذه الخطوات كان إنشاء الشباك الوحيد المركزي للعقار الاقتصادي، وإصدار قانون جديد للاستثمار، فضلا عن الدفع القوي نحو رقمنة الإدارة ومحاربة البيروقراطية.
والأهم من ذلك، أن هذه الإصلاحات لم تكن حبرا على ورق، بل بدأت تُترجم إلى مؤشرات ملموسة، فرضت نفسها حتى على تقارير المؤسسات الدولية. فرئيس بعثة صندوق النقد في الجزائر، شارالامبوس تسانغاريدس، لم يتردد في القول: “بلغ معدل النمو 3.6% في 2024، مع تراجع التضخم من 9.3% إلى 4.1%”. إنها أرقام صعبة على أي جهة تجاهلها، والأصعب على صندوق النقد أن يُقابلها بالصمت.
وهكذا، لم يكن أمام الصندوق سوى الاعتراف بأن الجزائر نجحت في “تثبيت مسارها الاقتصادي رغم حالة عدم اليقين العالمي”، بل وفرضت نموذجا خارج حسابات التقارير الكلاسيكية التي اعتادت تقديم وصفات تقشف جاهزة للدول النامية.
من “ضغط خارجي” إلى “اعتراف علني”
وتشكل إشادة صندوق النقد هذه تحولا نوعيا في الخطاب الموجه نحو الجزائر. فالمؤسسة نفسها التي طالما رفعت تقارير تحذر من الاختلالات الهيكلية، أصبحت تتحدث عن “نشاط ملحوظ” في القطاعات غير النفطية، وعن “تحسن بيئة الأعمال”، وهو ما يعكس اعترافا فعليا بأن الجزائر بدأت في كسر القاعدة النمطية لدول ريعية لا تعيش إلا على صادرات الطاقة.
منطق الصندوق تغيّر، ولغته كذلك. فبينما كانت تقاريره في السابق تستعمل مصطلحات مثل: “مخاطر، هشاشة، تباطؤ”، ها هو اليوم يتحدث عن “تحسن، استقرار، نمو”. والفرق هنا جوهري، لأنه يكشف عن تغيّر داخلي في الجزائر، وعن وعي متأخر في الخارج بأن البلاد ليست على حافة الانهيار كما كانوا يروّجون، بل على طريق التحصين الاقتصادي الذاتي.
وبين سطور التصريحات، يُمكن قراءة ما لم يُقل حرفيا: أن الجزائر استطاعت بصبر وصرامة أن تُعيد ضبط مسارها الاقتصادي، دون قروض، ودون انحناء.
الإصلاحات تُثمر… والاحترام الدولي يتزايد
ولعل من أهم الإشارات التي وردت في تصريح الصندوق هي تنويهه بالشباك الموحد المخصص للعقار الاقتصادي، والذي اعتُبر لعقود من أبرز العوائق أمام المستثمرين المحليين والأجانب. هذا النوع من الإصلاحات المؤسسية كان بمثابة “العقدة البيروقراطية” التي خنقت المشاريع، ولكن مع إطلاقها بشكل مركزي ومنظم، بات هناك “فضاء أوضح للاستثمار” كما وصفه أكثر من خبير.
كما أن استمرار الحكومة في دعم النمو دون خلق ديون خارجية، هو بحد ذاته رسالة واضحة للعالم مفادها: “الجزائر لا تريد قروضا من أجل بناء اقتصادها، وأن نموذجها الاقتصادي المستقل ماض بعزيمة الرجال”.
هذه الاستقلالية في القرار، المصحوبة بإجراءات ملموسة، تجعل من إشادة صندوق النقد الدولي اليوم، ليس منّة، وإنما انتصارا لنهج الرئيس تبون الذي كان واضحا منذ البداية: “نحن نعرف ما نريد، وسنصل إليه بطريقتنا”.
حين تجبر دولة مثل الجزائر صندوق النقد الدولي على الإشادة بإصلاحاتها، فلابد من أن شيئا كبيرا قد تغيّر. هذا الصندوق لم يُعرف يوما بكيل المديح السهل، لكنه وجد نفسه مضطرا للاعتراف بأن نموذج الجزائر الاقتصادي بدأ يعطي ثماره، رغم كل ما يُحاك في الخارج من أزمات وتضييقات.