كان صباحًا هادئًا في معرض السياحة الشبانية الذي نظم بقاعة حرشة حسان بالجزائر العاصمة، أشعة الشمس تتسلل بخفة عبر النوافذ الزجاجية، بينما تعج القاعة بالحركة، أصوات الزوار تتداخل مع موسيقى تقليدية خفيفة قادمة من أحد الأجنحة.
في الزاوية الشرقية للصالة، لفت انتباهي ركن تملؤه ألوان زاهية وألبسة مطرزة بدقة ترتديها نساء وبنات جميلات، من لهجتهن تعرف أنهن ينحدرن من ولاية تلمسان. داخل الركن تارة وخارجه في كثير من المرات كانت تقف قائد سليمان سامية، مرتدية الشدة التلمسانية بكل تفاصيلها، إلى جانب ابنتها حميدو مريم ريهام ذات الـ16 عامًا، التي كانت تتألق في البلوزة التلمسانية، بينما وقف ابنها حميدو أنس أرسلان مرتديًا البرنوس الأبيض، رمز الفخامة والأصالة الجزائرية.
وأنا أراقب كيف يتفاعل الزوار مع جناحهم، حيث يتوقف البعض لالتقاط الصور، بينما يقترب آخرون لملامسة الأقمشة المطرزة وسؤالهم عن أصول هذه الملابس التقليدية، دفعني الفضول لالتقاط صورة تذكارية معهن، وعندما رأتني سامية أنظر بانبهار إلى الذهبية، وهي مجموعة الحلي التقليدية التي تزين لباسها، ابتسمت لي وقالت بفخر: “هذا ليس مجرد لباس… إنه تاريخ بأكمله، نحمله معنا في كل مكان لنعرّف الأجيال الجديدة بأصالتنا.”
اللباس التقليدي التلمساني… أكثر من مجرد أزياء

منذ سنوات، قررت سامية أن تنقل شغفها باللباس التقليدي التلمساني إلى أبنائها، حيث بدأت مشاركتها في المعارض والمهرجانات الوطنية لتعريف الناس بأهمية الحفاظ على هذا الإرث.
تقول لي سامية بلهجتها التلمسانية الجميلة بعدما عرفت أني صحفي الجريدة الالكترونية “سهم ميديا”: “نحن لا نبيع هذه الأزياء، بل نرتديها، نعيشها، ونجعلها جزءًا من حياتنا اليومية. عندما نرتدي الشدة أو البلوزة أو الكاراكو، لا نلبس مجرد قطعة قماش، نحن نحمل تاريخ أجدادنا معنا.”
سألتها عن طبيعة مشاركاتهم في هذه التظاهرات، وإن كانوا يمثلون جمعية أو مؤسسة، فأجابت بفخر: “أنا لا أنتمي إلى جمعية معينة، لكنني أشارك في كل التظاهرات والمهرجانات الوطنية بدعوة من وزارة الثقافة والسياحة، وأحيانًا حتى وزارة الرياضة. الجميع يعرفنا لأننا نحرص على حضور مثل هذه الفعاليات في مختلف الولايات، والهدف واحد: الحفاظ على التراث التلمساني والتعريف به.”
وعن مصدر هذه الملابس، أوضحت: “منذ صغري، نشأت وسط عائلة تهتم بالحرف التقليدية، تعلمت فنون الخياطة والتطريز من والدتي وجدتي. اليوم، لا أملك ورشة خياطة رسمية، لكنني أعمل في بيتي، أصنع بعض القطع بنفسي، وأحيانًا أتعاون مع حرفيين محليين لإتمام بعض التفاصيل الدقيقة، سواء في اللباس أو الحلي.”
مريم ريهام… شغف يتوارث عبر الأجيال

على الجانب الآخر، كانت مريم ريهام تستمع لحديث والدتها بابتسامة، ثم قالت بحماس عندما سألتها عن بدايتها في هذا المجال: “تعلمت هذه الحرفة من عائلتي، كنت أراهم دائماً يصنعون الملابس ويهتمون بالتفاصيل، ومع الوقت أصبحت جزءًا مني. منذ صغري، كنت أحب رؤية أمي وهي تطرّز الأقمشة أو تنسق الأكسسوارات، ومع مرور الوقت بدأت أشارك معها وأتعلم منها أسرار هذه المهنة.”
وعن أكثر شيء تحبه في هذا المجال، قالت بحماس: “أجمل ما أفعله هو صنع المجوهرات التقليدية التي تزين العروس التلمسانية، مثل السخاب والذهبية، أحب كيف تضيء هذه القطع وجه العروس وتعطيها طابعًا ملكيًا.”
لكن كيف تختار اللباس الذي ترتديه خلال الحفلات والتظاهرات؟ أجابت بعد تفكير: “الاختيار يعتمد على نوع المناسبة، فمثلاً إذا كانت حفلة زفاف، أفضل ارتداء الشدة التلمسانية لأنها ترمز للفخامة والأناقة، أما في المهرجانات والمعارض، فأختار بين البلوزة والكاراكو حسب متطلبات الحدث، لكن الأهم هو أن يكون اللباس أصيلًا ومحافظًا على تفاصيله التقليدية.”
وعن رأيها في كيفية تشجيع الشباب على الحفاظ على هذا التراث، قالت ذات ال16 عاما بجدية: “يجب أن نتمسك بعاداتنا كما ورثناها عن أجدادنا، لا يجب أن نغير فيها أو نشوهها. التراث جزء من هويتنا، وإذا لم نحافظ عليه، فسيفقد قيمته مع مرور الزمن.”
أما عن أحلامها المستقبلية، فقد عبرت عنها بشغف: “أتمنى أن أكون قادرة على الحفاظ على العادات والتقاليد التلمسانية على أصولها، وأريد أن أنقلها لأحفادي وأحفاد أحفادي. أحلم بأن أفتح ورشة خاصة بي يومًا ما، حيث يمكنني تصميم الملابس التقليدية وتعليم الأجيال القادمة كيفية صنعها وتنسيقها
أنس أرسلان… الفتى الذي يكسر القوالب النمطية

أما أنس أرسلان، الذي بدا أكثر تحفظًا في البداية، فقد تحدث أخيرًا قائلاً: “الكثيرون يعتقدون أن اللباس التقليدي خاص بالنساء فقط، لكن هذا ليس صحيحًا، فالرجال أيضًا لديهم أزياء تعبر عن أصالتهم، مثل البرنوس والقشابية. عندما أرتدي البرنوس، أشعر وكأنني أمثل أجدادي الذين كانوا يرتدونه في كل المناسبات.”
وعن موقف أصدقائه عندما يرونه يرتدي هذه الأزياء في المهرجانات، قال مبتسمًا: “في البداية كانوا يتفاجؤون، لكن بعد أن شرحت لهم أهمية هذه الملابس وقصتها، بدأ بعضهم يهتم بها أيضاً. اليوم، أعتقد أن الشباب بحاجة فقط إلى معرفة تاريخهم الحقيقي حتى يشعروا بالفخر به.”
الحفاظ على التراث وجذب الشباب… تحديات في الطريق

رغم شغفهم الكبير، تواجه العائلة تحديات كثيرة في نشر هذا التراث بين الشباب. تقول سامية وهي تعيد ترتيب إحدى قطع القماش المطرزة على الطاولة: “الكثير من الشباب يرون اللباس التقليدي شيئًا قديمًا، ويربطونه فقط بالأعراس والمناسبات الرسمية. نحاول أن نُظهر لهم أنه يمكن أن يكون جزءًا من الهوية اليومية، وليس مجرد زي للمناسبات.”
وأضافت مريم ريهام بحماس: “في بعض المهرجانات، نقوم بورشات صغيرة حيث نجعل الفتيات يجربن الشدة التلمسانية أو البلوزة، وعندما ينظرن إلى أنفسهن في المرآة، يعجبن جدًا بهذا الزي.”
من تلمسان إلى كل الجزائر… حلم التوسع

العائلة لا تكتفي بالمشاركة في الفعاليات داخل الجزائر العاصمة، بل تطمح إلى توسيع نطاق عملها. تقول سامية: “شاركنا في عدة مهرجانات عبر ولايات مختلفة، لكن حلمي الأكبر هو أن نأخذ هذا اللباس إلى معارض دولية، لأن التراث الجزائري يستحق أن يُعرف في كل مكان.”
واصلت الشمس التسلل من النوافذ الزجاجية للمبنى، وواصلت معها العائلة الترحيب بالزوار الجدد، بعضهم يسأل عن تفاصيل الخياطة، وآخرون يطلبون تجربة بعض القطع. في ركنهم الصغير، لم يكن الأمر عرض أزياء وفقط، بل كان درسًا حيًا في الهوية، تحمله سامية وأبناؤها بفخر عبر المدن، ليحكوا من خلال الأقمشة المطرزة قصة تلمسان العريقة.