تمثل فاتورة استيراد مسحوق الحليب أحد أبرز أعباء الميزان التجاري الجزائري، إذ تستنزف سنويا مئات الملايين من الدولارات لتلبية حاجات السوق المحلية.
وفي خضم هذا الوضع، يبرز مشروع “بلدنا” كأحد أضخم الاستثمارات الزراعية–الصناعية في تاريخ الجزائر، بطموح معلن هو تقليص التبعية للخارج عبر إنتاج محلي ضخم للألبان ومشتقاتها.
غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم هو: إلى أي مدى يمكن لهذا المشروع أن يوفّر فعليا العملة الصعبة التي كانت تذهب لعقود طويلة في استيراد الحليب ومشتقاته؟
فاتورة استيراد الحليب بالأرقام… عبء ثقيل على الاقتصاد
لطالما شكّل استيراد مسحوق الحليب أحد البنود الأكثر استنزافا للعملة الصعبة في فاتورة الغذاء الجزائرية. فبحسب تقارير رسمية ودولية، بلغت قيمة واردات الجزائر من هذه المادة الحيوية ما بين 600 و800 مليون دولار سنويا خلال السنوات الأخيرة، وهو رقم يضعها في صدارة الدول المستوردة لمسحوق الحليب في المنطقة. هذا الحجم الكبير من الإنفاق يعكس حجم الاعتماد على الخارج لتلبية الاستهلاك المحلي، خاصة وأن الحليب يُعتبر مادة أساسية مدعمة في السوق الوطنية.
وتشير بيانات وزارة الفلاحة والمكتب الوطني للحليب (ONIL) إلى أن الجزائر تستورد مئات آلاف الأطنان سنويا من مسحوق الحليب المجفف، سواء كامل الدسم (WMP) أو منزوع الدسم (SMP)، لتغطية حاجيت السوق وضمان استقرار الأسعار. وقد ارتفعت هذه الفاتورة بشكل ملحوظ بعد جائحة كوفيد، نتيجة اضطراب سلاسل الإمداد وارتفاع الأسعار العالمية، ما جعل الجزائر تدفع أثمانا أعلى للحفاظ على توازن العرض الداخلي.
هذا الوضع أوجد ضغطا دائما على احتياطي النقد الأجنبي، إذ يلتهم استيراد مسحوق الحليب جزءا معتبرا من المداخيل النفطية الموجهة لتمويل الواردات الغذائية. لذلك ينظر الكثير من الخبراء إلى مشروع “بلدنا” باعتباره فرصة استراتيجية لتقليص هذا النزيف، عبر إنتاج محلي يمكن أن يغطي جزءا كبيرا من الاحتياجات الوطنية ويحرر الاقتصاد من التبعية المستمرة للأسواق الخارجية.
مشروع “بلدنا”… استثمار ضخم وطموح لإنتاج محلي
ويحمل مشروع “بلدنا” بصمة استثمارية غير مسبوقة في قطاع الزراعة والصناعات الغذائية بالجزائر، بقيمة إجمالية تناهز 3,5 مليار دولار. المشروع، الذي يُنفذ بشراكة جزائرية–قطرية، يقوم على رؤية متكاملة تربط بين استصلاح الأراضي، زراعة الأعلاف، تربية الأبقار، ثم تصنيع مسحوق الحليب ومشتقاته داخل وحدات إنتاج محلية. هذه المقاربة تهدف إلى كسر الحلقة التقليدية التي أبقت الجزائر لعقود معتمدة على الاستيراد.
المرحلة الأولى من المشروع، التي دخلت بالفعل طور التنفيذ عبر توقيع 14 عقدا بقيمة تفوق 500 مليون دولار مع شركات عالمية متخصصة، تشمل استصلاح نحو 100 ألف هكتار من الأراضي الصحراوية، وتركيب ما يقارب 700 محور ري مخصص لإنتاج الأعلاف. كما سيتم إنشاء مزارع لتربية الأبقار وبناء أول مصنع لإنتاج مسحوق الحليب، بطاقة ستنطلق بـ10 آلاف بقرة حلوب عالية المردودية، على أن يرتفع العدد تدريجياً إلى 250 ألف بقرة خلال السنوات المقبلة.
هذا الحجم من الاستثمارات والطاقات المستهدفة يجعل من “بلدنا” مشروعا استراتيجيا، لا يقتصر أثره على توفير الحليب ومشتقاته فحسب، بل يمتد إلى خلق نسيج صناعي جديد، وفتح فرص تشغيل واسعة، وتحويل الصحراء إلى فضاء منتج يساهم في الأمن الغذائي الوطني. وبذلك، يضع المشروع نفسه كأحد ركائز التحول الاقتصادي الذي تراهن عليه الجزائر لتقليص التبعية للخارج.
كم سيوفّر مشروع “بلدنا” من العملة الصعبة؟ سيناريوهات واقعية بالأرقام
تقدّر الفاتورة السنوية لاستيراد مسحوق الحليب في الجزائر بما يتراوح بين 600 و800 مليون دولار، وهو ما يجعل أي إحلال محلي في هذا المجال ينعكس مباشرة على ميزان المدفوعات. وبالنظر إلى طموح مشروع “بلدنا” بتغطية نحو 50 بالمائة من الاحتياجات الوطنية عند بلوغ طاقته الكاملة، فإن حجم الوفورات المحتملة قد يتراوح بين 300 و400 مليون دولار سنويا، استنادا إلى مستويات الأسعار العالمية الحالية.
في المرحلة الأولى من المشروع، التي تنطلق ابتداء من عام 2026، من المرجح أن يغطي “بلدنا” نسبة تتراوح بين 15 و20 بالمائة من الطلب المحلي، وهو ما يعادل وفورات تقديرية تتراوح بين 120 و160 مليون دولار سنويا. ومع توسع القطيع وبداية تشغيل المصنع الثاني لإنتاج مسحوق الحليب، يمكن رفع هذه النسبة تدريجيا لتبلغ 35 بالمائة منتصف الطريق، قبل بلوغ الهدف النهائي المتمثل في 50 بالمائة بحلول نهاية العقد.
وتستند هذه السيناريوهات إلى معطيات رسمية وتقارير دولية حول الاستيراد والأسعار المرجعية لمسحوق الحليب (التي تراوحت في مناقصات المكتب الوطني للحليب حول 3050 دولارا للطن الواحد). وبذلك، فإن مشروع “بلدنا” يملك القدرة ليس فقط على تقليص فاتورة الاستيراد، بل على تحرير مئات الملايين من الدولارات سنويا، يمكن توجيهها لدعم مشاريع تنموية أخرى أو تعزيز احتياطي النقد الأجنبي.
بين الوفورات والتكاليف… صافي الأثر على الميزان التجاري
رغم التقديرات المشجعة لحجم الوفورات السنوية، فإن حساب الأثر الصافي لمشروع “بلدنا” على الميزان التجاري يستدعي الأخذ في الاعتبار التكاليف الأولية المرتفعة. فقد خصصت الشركة الجزائرية–القطرية أكثر من 500 مليون دولار في المرحلة الأولى وحدها لتغطية عقود تجهيزات متطورة في الري، وتربية الأبقار، وخطوط الإنتاج الصناعي، وهو ما يشكل عبئا مرحليا على فاتورة الاستيراد قبل أن تبدأ النتائج الإيجابية بالظهور.
غير أن هذه التكاليف تبقى مؤقتة ومحدودة زمنيا، إذ إنها مرتبطة بتشييد البنى التحتية وتثبيت التجهيزات. أما بعد دخول مرحلة الإنتاج الفعلي، فإن الاعتماد على الأعلاف المزروعة محليا واستغلال الأراضي الصحراوية سيضمن تقليصا كبيرا في فاتورة الاستيراد، بحيث تتحول الجزائر من مستورد رئيسي لمسحوق الحليب إلى منتج يغطي معظم احتياجاته محليا. وبذلك، فإن الكلفة الأولي