تشهد الجامعة الجزائرية اليوم ديناميكية حقيقية نظير الدور والمكانة التي تلعبها في مسار التنمية الوطنية، وهو ما تشير اليه حصيلة نتائج القرارات المتخذة في السنوات الاخيرة كما ونوعا (التحول الرقمي وتحسين مرئية الجامعات الدولية في التصنيفات العالمية كشنغهاي و QS & THE، ارتفاع أعداد الخريجين وزيادة عدد الموظفين من خريجي الجامعات في مختلف القطاعات، الشراكات الوطنية والدولية المبرمة ونتائجها في الحركية والتبادل المعرفي، عدد براءات الاختراع والشركات الناشئة، المدارس والتخصصات الجديدة المفتوحة، نشر توظيف اللغة الانجليزية في التدريس والبحث وتمديد أوقات عمل الجامعات الى 22.00 مساءا، التوجه نحو جامعة من الجيل 4.0 وتحقيق الاستدامة،…الخ.).
وتشير الممارسات الدولية والتوجهات الحديثة لعمل الجامعات اليوم التأكيد على رسالتها المجتمعية ومهنيتها في تحديد أهدافها ومتابعتها والتي لا تتحقق الا عن طريق امتلاك واستخدام منظومة جودة واعتماد أكاديمي وطني وأيضا دولي بحيث تؤطر العمل المؤسسي والبرامجي (البرامج الاكاديمية أو عروض التكوين للتخصصات الجامعية) بشكل موضوعي ومبرر، بعض الجامعات المرموقة تضع من ضمن شروط اقامة شراكات دولية مع الجامعات أن تكون معتمدة أكاديميا وطنيا و\أو دوليا، يضاف لذلك العمل من منظور فلسفة التحسين المستمر في اطار ممارسات الادارة والتخطيط الاستراتيجي التي ينبغي أن تكون ممارسات معلنة ووسيلة تواصل مع الأطراف المجتمعية الفاعلة في علاقتها داخل وخارج الجامعة كمنسوبي الجامعات من أعضاء الهيئة التدريسية والباحثين والطلبة والموظفين، وأيضا شركاء الجامعة المجتمعيون والدولة بهيئاتها وبقية الاطراف من البيئة الدولية أيضا، لأن وجود تفكير استراتيجي وخطط زمنية معلنة، تكون منبثقة من الاستراتيجية الوطنية للتنمية، تعبر عن مسؤولية والتزام لدى هيئات التعليم العالي وتسهل عليها متابعة أهدافها وتبرير استخدام مواردها، كما تمنح الثقة لشركائها وتسمح لهم بالحكم على مواردها وامكاناتها الحالية ومعرفة أين تريد أن تصل وكيف وبأي وسيلة تحقق ذلك، وهذا يدعم قدرتها على استقطاب الطلب على برامجها الاكاديمية ومخرجاتها البحثية، فالجامعة هي بيت خبرة وطني يقدم الحلول التطويرية والمبادرات لجميع قطاعات المجتمع وتساهم في ازدهاره.
لاشك أنه كانت هناك الكثير من الانجازات التي قدمتها الوزارة وتعمل في سياقها في اطار جودة التعليم العالي ولاسيما مع استحداث الهيئة الوطنية للجودة CIAQUES التي تلتها عملية انشاء خلايا للجودة بالجامعات ووجود مرجعية وطنية لضمان الجودة RNAQ والتي تمت مراجعتها فيما بعد ، بحيث شكلت لنا مرجعية واضحة واطارا مفاهيميا مهما للعمل، لأن الجودة في التعليم العالي تحتاج لأن تكون لغة مشتركة يتقنها ويؤمن بها الجميع كي تنجح، كا أن امتلاك نظام ضمان الجودة في التعليم العالي يعد مؤشرا هاما لتبرير الدور التنموي للجامعة وتعزيز مرئيتها الدولية.
هذه الجهود الاصلاحية المقدمة ولاسيما مع التوجه الحالي نحو الدفع بالجامعة الى نموذج الجامعة المدمجة من الجيل 4.0 كثيفة التوظيف الرقمي في ممارساتها والتي تعمل ضمن مباديء الاستدامة والابداع بقدرات عالية للرد على متطلبات القطاع الصناعي وتوقعات الطلاب، تحتاج لامتلاك أنظمة جودة معيارية تتناسق مع متطلبات وشروط الهيئات الدولية الخاصة بالاعتماد والتصنيف الدولي، والتي تعطي مصداقية واعترافا بمنتجات ومخرجات الجامعات التعليمية والبحثية وتدعم قابلية توظيف خريجيها وتجعلها جاذبة للكفاءات ولمصادرر التمويل المختلفة. في هذا الاطار نقدم باختصار بعض الاقتراحات، انطلاقا من معايشة وتحليل بعض التجارب والممارسات الدولية الناجحة والمعيارية، والتي نعتقد أنها ضرورية لتحسين أداء المنظومة الجامعية واستكمال خارطة العمل المؤسساتي بشكل متوافق :
أولا، اظهار الرسالة والأهداف الاستراتيجية للمؤسسات التعليمية وفق نسق دولي يستند لمبادئ الادارة والتخطيط الاستراتيجي.
حين نتصفح مواقع الجامعات العالمية وأيضا مواقع كلياتها وعماداتها نلاحظ أنها تسعى للتواصل مع الأطراف ذوات المصلحة Stakeholders عن طريق نشر رسالة معلنة لها وكذلك الأهداف الاستراتيجية التي تسعى لتحقيقها تكون واضحة ضمن مجموعة من القيم المحددة، وأحيانا نجد نسخة مختصرة من خطتها الاستراتيجية لثلاث أو أربع أو خمس سنوات وتقارير الأداء السنوية ومؤشرات قياس ومتابعة تنفيذ الأهداف أيضا، ان العمل ضمن هذه الممارسة المعيارية يؤكد على أن الجامعة تمارس مهامها بمهنية واحترافية ضمن اطار زمني محدد ودقيق وأهداف واضحة وواقعية، بحيث تعطي الثقة والمصداقية للمتعاملين معها، كما أنها تسمح بتوجيه أفعالها ودعم كفائتها التشغيلية وأيضا تقدم تبريرا منطقيا للقرارات التي تتخذها.
في هذا المجال وحتى وان كانت الجامعات حكومية وتمويلها يأتي من الدولة فان هناك مرونة تسمح لها بالتنافس والتميز وبالتالي فان توجيهها الاستراتيجي يكون مختلفا طالما أنه يتحدد انطلاقا من رؤيتها وامكاناتها وخصوصياتها وتحليلها للبيئة بأبعادها المختلفة، كما أنها تعمل ضمن منظور المنافسة مع مثيلاتها من هيئات التعليم العالي فهي لا تمتلك نفس القدرات ولكل خصوصياتها التي تستمدها من خبراتها وامكاناتها وقدراتها البحثية والبشرية والتكنولوجية وأيضا من خصوصية المنطقة التي تتواجد بها ومحدداتها الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والثقافية، وبالتالي فهي مؤهلة لبناء هوية مؤسساتية مستقلة في الجانب التعليمي والبحثي، فقد ترى نتجة لذلك انه من الضروري أن تركز على تخصصات دون أخرى وبشروط معينة ضمن توجهاتها الاستراتيجية المنبثقة من التوجهات الوطنية للتمنية (في المجال الفلاحي والصناعي والصحي).
ان وجود هذا البعد الاستراتيجي كممارسة لدى هيئات التعليم العالي مهم جدا لأنه يوجه فيما بعد جهود الجامعات التي تترجم في برامج أكاديمية للتعليم أو ما يسمى بعروض التكوين وكذلك البرامج البحثية التي تستهدفها ونوعية الشراكات الوطنية والدولية التي تحققها. في هذا المجال تستطيع كل جامعة أن تنفرد بمواصفات هوياتية مشتركة لخريجيها Graduates Attributes في كل التخصصات التي تقدمها تعبر عن معارف ومهارات وقيم مميزة، تكون برامجها التعليمة قد سعت لتحقيقها وغرسها لدى الطلاب طيلة فترة دراستهم، بما يسمح لها بالمنافسة مع مثيلاتها داخليا ودوليا، هذه النواتج التعليمية Outcomes learning تعطي للخريج بصمة مميزة لجامعة وتعزز من مرئيتها وسمعتها ووتقوي من رأسمال علامتها.
ثانيا، في مجال حوكمة العمل: انشاء هيئة أو وكالة وطنية للجودة والاعتماد الأكاديمي
هذه الهيئة ستكون السند وحلقة وصل وشريك فاعل مع وزارة التعليم العالي للارتقاء بستوى اداء الجامعات والمدارس الى أعلى المستويات، وأنها تضمن الدعم المعرفي والمرافقة والتحفيز الضروري للعمل. كما أنها تعمل ضمن معيارية دولية توفر أفضل الممارسات الممكنة في اطار تنسيق كاف مع استراتيجية وأهداف وزارةالتعليم العالي.
الكثير من الدول أنشأت هيئات مستقلة منذ سنوات وقد ظهرت نتائج ذلك في مستويات أداء هيئاتها التعليمية والبحثية (أمريكا وبريطانيا والكثير من الدول الأوروبية ودول الشرق الأوسط كالمملكة العربية السعودية وقطر ….)، تعمل هذه الهيئات على تحديد معايير دقيقة للجودة في التدريس والبحث وخدمة المجتمع، يعدها خبراء بناءا على دراسات ومقارنات مرجعية وعلى أسس علمية وواقعية تراعي متطلبات السوق واهتمامات المجتمع وتخدم أهداف الاستراتيجية الوطنية للدولة وافاقها المستقبلية، كما تتوافق مع بيتئها وخصوصيتها الثقافية والمجتمعية، وتحضرها لكي تصبح منافسا قويا في الساحة الدولية بحيث تضمن حركية مرنة لخريجيها ومنتجاتها البحثية. كما تقوم هذه الهيئة بالعمل على تأهيل الهيئات التعليمية والبحثية كالجامعات والمدارس العليا عن طريق اعتمادها مؤسساتيا في هياكلها ومواردها وأنظمتها (اعطاء مصداقية حول قدرتها الفعلية على ممارسة مهامها)، وأيضا تقوم باعتمادها للبرامج التي تقدمها هذا الهيئات أو ما يعرف بعروض التكوين المقترحة للتخصصات المختلفة، وتقدم التدريب والمرافقة والدعم الضروري لها.
ثالثا، مراجعة عروض التكوين وتحديد نواتج التعلم للبرامج والمقررات بمنهجية علمية ومعيارية وفقا لمتطلبات السوق
عروض التكوين أو البرامج الأكاديمية التي تقترحها الجامعات كخدمات تعليمية وبحثية للطلاب (ليسانس، ماستر، مثلا) تحتاج لأن تخضع لشروط شكلية وتنظيمية دقيقة تحددها هيئة الجودة والاعتماد الأكاديمي وفقا لنماذج محددة، كما يجب أن تخضع في اطار ممارسات الجودة العالمية الى منهجية علمية دقيقة، تستدعي الاجابة المقنعة على أسئلة كثيرة منها مثلا الجدوى من تقديم أي تخصص ؟ هل هناك طلب كاف عليه ؟ وهل يضمن قابلية توظيف لخريجيه؟ هل يمتلك نظام للجودة ؟ كيف يتم التأكد من تحقيق أهدافه؟ وما هي مؤشرات قياس الاداء التي يعتمدها؟ ….الخ.
ان وجود هيئة للجودة والاعتماد الاكاديمي يسمح بتأطير كاف لهاته الممارسات عن طريق وضع جملة من الشروط الشكلية والجوهرية المدروسة والتي ينبغي أن يستوفيها أي برنامج أكاديمي قبل اطلاقه، (البنية التحتية والقدرات البشرية، دراسة السوق ومعرفة فرص التوظيف، تطور سوق المهن والوظائف، اجراء مقارنات مرجعية مع هيئات مماثلة تقدم هذا البرنامج محليا ودوليا، تبرير الطلب عليه وتطوره خلال السنوات القادمة….)، كما أن أي عرض تكوين او برنامج اكاديمي مقترح يحتاج أن تكون له الكثير من الأدلة المؤسسية والبرامجية، السياسات والاجراءات، دليل الطالب، دليل الجودة للبرنامج، وأن تكون موثقة ومتاحة لكل منسوبيه، وأن يعمل في اطار فلسفة للتحسين المستمر وضمن ممارسات الادارة والتخطيط الاستراتيجي، بحيث تضمن وجود خطط دراسية وبحثية دورية تخضع للتقييم والمتابعة وأن تكون له مؤشرات لقياس الأداء تساهم في متابعة معدلات الانجاز واغلاق دائرة الجودة.
ان مفهوم نواتج التعلم للبرامج والمقررات الدراسية مفتاحي وله تأثير مباشر وقوي ولذلك يحتاج لأن يظهر كممارسة روتينية وضمنية حاضرة في كل المستويات التنظيمية، وخاصة عند بناء البرامج التعليمية التي تتمحور حولها مجمل ممارسات الجودة والانجاز، فهي تحدد استراتيجيات التعلم التي تحققها وكذلك استراتيجيات التقييم التي تتأكد من مدى تحقق هذه النواتج لدى الخريجين، ويسمح تحليل نتائج قياسها من وضع استراتيجيات التحسين وتصحيح الانحرافات المرتبطة بها.
تحتاج جامعاتنا اليوم وهي تحقق هذا التقدم في مجالات كثيرة لاسيما مع التوجه نحو الجامعات المعرفية كثيفة استخدام الرقمنة من الجيل 4.0 الىى نشر ثقافة جديدة للجودة والعمل المؤسسي بحيث يشارك فيها الجميع لأنها تخدم هدفا مشتركا يسعى لديمومة مؤسسات التعليم العالي في ظل بيئة تتميز بسرعة التغير وعدم التأكد والتعقيد والغموض VUCA.
في الأخير، نود الاشارة أيضا الى أن أنظمة الجودة تهدف الى تعزيز قدرات الجامعات وضمان أنها تعمل ضمن أطر مؤسسية ومهنية صارمة تسمح بديمومتها حتى في اطار تنافسي منفتح لاسيما مع التغيرات الهيكلية في سوق العمل ومجال التعليم العالي بوجود كليات وجامعات خاصة مرخصة، فالجامعات اليوم تتجه للقيام بأدوار استراتيجية كثيرة انطلاقا من كونها شريك فاعل للحكومات والمجتمعات ، فهي تعمل ضمن استراتيجية تنموية وطنية بكل أبعادها، وبذلك فهي مطالبة أكثر مما مضى بدعم استقلاليتها المالية عن طريق البحث عن مصادر تمويل اضافية وأن تكون منشأة للثروة ومصدرا للرفاه الاقتصادي ورافدا للخزينة العمومية بدلا من أن تكون عبئا على الدولة. هذا يتطلب منها أن تطور حلولا ابداعية في اطار البحث عن شراكات منتجة مع قطاع الأعمال وأن تكون بيت خبرة قادر على انتاج الأفكار والخبرات وبراءات الاختراع والحلول التقنية والتكنولوجية وتتجيرها مع القطاعات المختلفة، بعض الجامعات تقوم مثلا بتأجير بعض هياكلها في أوقات معينة لطالبي الخدمات كالمنشئات الرياضية للفرق المحلية ،وأيضا يمكن أن تتم مع شبكة النقل والاتصالات وخدمات الايواء والاطعام، وتأجير بعض الأماكن من واجهاتها لشركات وبنوك، وأن تكون أيضا فضاءا مفتوحا على مدار اليوم لأن هذا يخدم انفتاحها المجتمعي بشكل أكبر ويسمح برفع كفائتها التشغيلية والاستفادة منها، وعلى الجامعة أن تكون أخيرا مستعدة وحاضرة للعمل وفق مباديء جديدة للمنافسة محليا ودوليا ومفتاح ذلك أولا في امتلاك واتباع أنظمة جودة ملائمة .