صواريخ إيران تسقط خرافة الكيان الذي لا يُقهر

تحليل

الضربة الإيرانية التي انطلقت فجر الثالث عشر من يونيو كانت إعلانا صريحا عن نهاية وهم طويل رُوّج له في الإعلام الغربي والعبري على حدّ سواء: “الدولة التي لا تقهر”. فقد اخترقت الصواريخ الباليستية والمسيرات الذكية العمق الإسرائيلي، مستهدفة منشآت حيوية في تل أبيب وحيفا وأشدود، وأرغمت المستوطنين على اللجوء إلى الملاجئ، في مشهد غير مألوف منذ نشأة هذا الكيان.

وبينما حاولت القيادة الإسرائيلية امتصاص الصدمة بتطمينات شكلية، كانت الصور القادمة من قلب المدن المحتلة تفضح هشاشة الردع وسقوط أسطورة التفوق الأمني والعسكري، وتؤشر على بداية تحوّل استراتيجي تعيد فيه إيران رسم معادلات القوة من جديد.

“الدولة المحصّنة” تتعرّى تحت الصواريخ

التفاصيل الميدانية أثبتت أن ما جرى كان انهيار صريح لمنظومة طالما رُوّج لها كأيقونة في عالم الحماية والردع. فالكيان الذي لطالما رفع شعار “الحدود الآمنة” و”السماء المغلقة”، وجد نفسه عاجزا أمام وابل من الصواريخ الدقيقة التي تساقطت في وضح النهار على قلب المدن الكبرى.

تقديرات وزارة الدفاع الإسرائيلية تشير إلى أن أكثر من 350 صاروخا ومسيرة أُطلقت في غضون ساعات قليلة، منها ما اخترق طبقات الدفاع الجوي وضرب أهدافا مباشرة داخل تل أبيب وحيفا وبئر السبع. مشاهد الدخان تتصاعد من “الكيريا” – مقر وزارة الدفاع – ومقاطع الفيديو التي تُظهر سقوط صواريخ وسط الأحياء السكنية، كشفت عن ثغرات قاتلة في منظومة القبة الحديدية و”السهم 3″، ما دفع خبراء عسكريين إسرائيليين إلى الاعتراف ضمنيا بأن “الهجوم الإيراني أعاد تعريف حدود الأمن القومي الإسرائيلي”.

لم يتوقف الانكشاف عند الجانب العسكري فقط، وامتد إلى البُعد المعنوي، حيث فقد الشارع الإسرائيلي ثقته في قدرة “دولته” على الحماية. فالملاجئ امتلأت، والصفارات لم تتوقف، وانقلبت الحياة اليومية إلى دوامة من القلق والانتظار. حتى وسائل الإعلام العبرية، رغم محاولاتها التخفيف، لم تستطع إنكار أن ما جرى “ضربة دقيقة للكرامة الأمنية”، في سابقة لم تشهدها الجبهة الداخلية منذ سنوات.

تعتيم إعلامي… والحقيقة تحترق في شوارع تل أبيب

وإذا كان سقوط المنظومة الدفاعية قد كشف عمق الخلل العسكري، فإن ما زاد من حجم الارتباك هو محاولات التعتيم الإعلامي التي لم تفلح في إخفاء مشاهد الدمار المتناثرة في شوارع الكيان. لقد تجاوزت الضربات الإيرانية الحدود المادية لتصيب أيضا ماكينة الدعاية التي طالما سوّقت “التفوّق الإسرائيلي” كحقيقة راسخة.

ففي الوقت الذي أصدرت فيه الحكومة الإسرائيلية بيانات مقتضبة تحدّثت عن “احتواء الهجوم”، كانت الصور المباشرة القادمة من تل أبيب تُظهر مشاهد مروّعة: مبان منهارة، سيارات محترقة، وحرائق تشتعل قرب مرافق عامة. صحيفة هآرتس اضطرت للاعتراف بأن الضربات “أحدثت فجوة في وعي الإسرائيليين، أكثر من الخسائر المادية ذاتها”، بينما تحدّثت قناة 13 العبرية عن “حالة من الذهول التام في صفوف المواطنين”.

إلى جانب المشاهد، سرّبت مصادر طبية إسرائيلية معلومات غير مُعلنة رسميا، مفادها أن عدد المصابين تجاوز 500 حالة، بينها أكثر من 70 إصابة حرجة، وأن مستشفيات تل أبيب اضطرت لإعادة تفعيل بروتوكولات الطوارئ كما لو أنها في حالة حرب شاملة. هذه الأرقام، التي لم يُعلن عنها رسميا حتى الآن، تفضح حجم التناقض بين الرواية الرسمية والواقع الفعلي، وتؤكد أن التعتيم لم يعد قادرا على التغطية، لا إعلاميا ولا ميدانيا.

وما يعمّق هذا التناقض هو الدور المتصاعد لمواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت مقاطع صادمة لم تُعرض في الإعلام العبري، ونُقلت عبر صحفيين أجانب ومواطنين، عكست حجم الرعب والانهيار داخل شوارع الكيان، الأمر الذي دفع مراقبين إلى القول: “إن من تلقى الضربة هو صورة إسرائيل نفسها أمام مواطنيها والعالم”.

الخوف.. والصدمة تسيطر على الداخل

وإذا كانت مشاهد الدمار والتعتيم الرسمي قد زعزعت الثقة في قدرة المؤسسة الأمنية، فإن الأثر الأعمق والأخطر تجلّى في المشهد النفسي داخل الكيان، حيث بدأت ملامح الانهيار الهادئ تظهر في سلوك المستوطنين، وفي لغة الإعلام، وفي لهجة السياسيين الذين بدوا – لأول مرة منذ سنوات – بلا يقين أو صلابة.

في شوارع تل أبيب وحيفا، كان المشهد أبنية مهدّمة، ووجوه مذعورة، عائلات تحتمي في مواقف السيارات، وآلاف الهاربين نحو الشمال. وزارات التعليم والصحة أغلقت عشرات المؤسسات، وأُلغيت الرحلات في مطارات مدنية وعسكرية. وفي تقرير لقناة i24، وصفت الأوضاع في المناطق الوسطى بأنها “حالة طوارئ مفتوحة المدى”، فيما تحدثت مصادر أمنية عن تلقي أكثر من 12 ألف مكالمة استغاثة خلال أول 24 ساعة فقط من القصف.

على الجانب النفسي، بدأ التشقّق يظهر في جدار “الثقة الحديدية” التي لطالما فاخر بها الخطاب الرسمي الإسرائيلي. فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت تحليلا لخبراء نفسيين تحدثوا فيه عن ارتفاع مؤشّر “القلق الجماعي” بنسبة 80% خلال الساعات الأولى، وعن عودة “متلازمة الملاجئ” التي كانت شائعة إبان حرب 2006 مع حزب الله، لكن هذه المرة على نطاق أوسع ووسط المدن الكبرى.

أما أخطر ما كشفت عنه الأزمة، فهو انهيار السردية الإعلامية أمام صدمة الواقع؛ حيث لم يعد الجمهور يتلقّى توجيها من النخب، وتحوّل بنفسه إلى ناقل وموثّق للأزمة، الأمر الذي أخرج السيطرة الإعلامية من يد الدولة، وخلق حالة من القلق الوجودي العميق، لم يعرفها الكيان منذ عقود.

منشآت تحت النار… والشلل يقترب من قلب الكيان

وإذا كان الانهيار النفسي قد مزّق ستار “الصلابة الاجتماعية”، فإن الضربات الإيرانية وجّهت طعنة مباشرة إلى قلب البنية التحتية الحيوية للكيان، لتكشف أن الخلل لم يكن فقط في الجبهة الداخلية من حيث المشاعر، بل أيضا في العصب الإداري والاقتصادي الذي يدير الدولة.

فقد أكدت صحيفة وول ستريت جورنال أن الضربة الإيرانية أدت إلى توقف جزئي لمصفاة تكرير النفط في حيفا، وهي من أهم منشآت الطاقة في الكيان، ما سبّب ارتباكا في سلسلة التوزيع وأثار مخاوف من أزمة وقود وارتفاع في الأسعار. كما تعرضت قاعدة عسكرية قرب أسدود لأضرار جسيمة، بعد سقوط صاروخ بعيد المدى اخترق الدفاعات الجوية، وفق تقرير نشرته قناة سكاي نيوز البريطانية.

وفي القطاع المدني، تسببت بعض المسيّرات الإيرانية في تدمير أجزاء من شبكة الاتصالات في منطقة غوش دان، وتعطلت خطوط الكهرباء في أطراف تل أبيب لساعات، وهو ما أكدته بيانات رسمية من شركة الكهرباء الإسرائيلية، قبل أن يتم حذفها لاحقا من موقعها الرسمي. وقد وُصفت هذه الاستهدافات من قبل محللين عسكريين بأنها “نقطة تحوّل تكتيكية”، إذ أظهرت أن الهجوم الإيراني كان موجها بدقة نحو أهداف تعني الكثير للدولة العبرية على مستوى التشغيل والسيطرة.

الأخطر من ذلك، أن مبنى دبلوماسيا أمريكيا غير رسمي في تل أبيب، يضم مستشارين أمنيين وموظفين إداريين، قد تضرّر بفعل إحدى الضربات، وفقا لوكالة أسوشيتد برس. هذا التطوّر كان له أثر معنوي كبير وبعث برسالة حازمة مفادها أن إيران لم تُطلق صواريخ استعراضية، وإنما تعي تماما مواضع التأثير والوجع، وأنها مستعدة – إذا لزم الأمر – لتوسيع نطاق الرد نحو أهداف ذات طابع دولي.

إيران ترسم قواعد اشتباك جديدة

وإذا كانت الضربات الدقيقة قد أصابت المنشآت الحيوية وأربكت الدولة في عمقها، فإن ما يُخيف المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أكثر، هو أن هذا القصف كان جزءا من استراتيجية إيرانية مدروسة تهدف إلى إعادة صياغة ميزان الردع في المنطقة وفق قواعد جديدة، تكون فيها طهران طرفا مقررا لا مجرد لاعب رديف.

في هذا السياق، أعلنت القوات المسلحة الإيرانية أن العملية نُفذت تحت مسمى “الوعد الصادق 3″، وأن ما أُطلق من صواريخ ومسيرات لا يُمثّل سوى “جزء محدود جدا” من القدرة الإيرانية، وهي تصريحات أكدها المتحدث باسم الحرس الثوري الذي قال: “إذا تجاوز العدو حدود العقل، فإن الرد القادم لن يكون على شكل إنذار بل إزالة من الخريطة العسكرية”. هذا النوع من الخطاب جاء مصحوبا بتنفيذ عمليات نوعية تُظهر دقة عالية في ضرب الأهداف، وهو ما أشارت إليه مراكز أبحاث عسكرية أمريكية.

وما يعزّز هذه القراءة، هو أن إيران اختارت بعناية توقيت الهجوم، ومواقع الاستهداف، وجعلت من الصواريخ رسائل عسكرية وسياسية في آن واحد: فهي أصابت منشآت، وأحرجت حلفاء، وأربكت حسابات. تقرير لموقع Breaking Defense ذكر أن “ما فعلته إيران خلال يومين، فشل في تحقيقه معظم خصوم إسرائيل عبر سنوات من الحروب التقليدية”، في إشارة إلى أن طهران نجحت في اختراق مركّب يدمج بين المعلومات الاستخباراتية والدقة العملياتية.

وإزاء هذا الواقع الجديد، باتت تل أبيب تعي أن قواعد الاشتباك التقليدية لم تعد سارية، وأن أي تحرك خاطئ قد يُقابل بردود تتجاوز توقعات جنرالاتها، ما يُدخل المنطقة – فعليا – في مرحلة ما بعد الحرب النفسية، نحو توازن رعب علني، تُرسم خطوطه هذه المرة بصواريخ تحمل ختما إيرانيا لا لبس فيه.

الكيان بين نار الرد ونقطة اللاعودة

وإذا كانت إيران قد فرضت قواعد جديدة للاشتباك وثبّتت حضورها كلاعب عسكري مباشر، فإن الكيان الصهيوني وجد نفسه في زاوية ضيقة لم يعتد أن يُدفع إليها: فلا الرد يضمن الهيبة، ولا الصمت يُنقذ ماء الوجه. وهي معادلة قاسية تُفقده المبادرة، وتجرّه إلى معركة استنزاف شاملة مفتوحة على سيناريوهات خطرة.

في الساعات الأولى بعد الهجوم، اجتمع المجلس الوزاري المصغّر (الكابينت) في تل أبيب بشكل عاجل، لكن نتائج الاجتماع لم ترقَ لمستوى التهديد. فاكتفى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بتصريحات غامضة من قبيل “الرد سيكون في المكان والزمان المناسبين”. غير أن هذا التردّد كشف حجم الحيرة داخل القيادة الإسرائيلية، التي باتت تُدرك أن أي رد عنيف قد يُشعل جبهة أوسع مع حزب الله في الشمال، أو يُحرج الولايات المتحدة في توقيت دبلوماسي دقيق.

في هذا السياق، نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرا يفيد بأن واشنطن نقلت عبر قنوات دبلوماسية رسائل غير مباشرة تطلب فيها من إسرائيل “ضبط النفس”، تجنبا لانزلاق إقليمي قد تُستدرج فيه قوى دولية. كما حذّرت موسكو، وبدرجة أقل باريس، من توسع التصعيد خارج الأراضي المحتلة، وهو ما يزيد من الضغط على صناع القرار في إسرائيل الذين بدوا وكأنهم محاصرون بين واجب الرد وخوف العواقب.

وفي ظل هذا الارتباك، يتكشّف واقع جديد على الأرض: الكيان لم يعد يملك تفوّق القرار، ولم يعد يمتلك هامش المناورة الذي ميّزه لعقود. وأصبح أمامه خياران أحلاهما مرّ: إما التصعيد وخسارة السيطرة، أو التراجع وقبول معادلة ردع فرضها خصم عنيد، يضرب بذكاء ولا يخشى الانفجار.