تتقدم الجزائر بخطى ثابتة نحو بناء منظومة صحية متكاملة وصناعة دوائية قوية، مدفوعة بسلسلة من المشاريع الكبرى التي دُشنت مؤخرا وعلى رأسها زيارة رئيس الجمهورية إلى ولاية قسنطينة.
ومع توسّع البنية التحتية الطبية وارتفاع الإنتاج الوطني من الأدوية إلى مستويات غير مسبوقة، تتعزز مكانة الجزائر في سوق الدواء الإقليمي، ما يجعل المرحلة الحالية علامة فارقة في مسار تحقيق السيادة الصحية والانفتاح على التصدير، خصوصًا نحو القارة الإفريقية.
عكست زيارة رئيس الجمهورية الأخيرة إلى قسنطينة حجم التحول الذي تعرفه المنظومة الصحية، إذ جسدت المشاريع المعلنة رؤية تقوم على إنشاء أقطاب طبية متخصصة تتوفر فيها الخدمات الدقيقة والمرافق الحديثة.
ويأتي المستشفى الجامعي الجديد بسعة 500 سرير ليجسد هذا التوجه، بما يتضمنه من أقسام استشفائية متطورة، وهياكل بيداغوجية تسمح بتكوين جيل جديد من الأطباء في مختلف التخصصات. هذا الاستثمار لا يُعد توسعة في الهياكل فحسب، بل ترجمة لسياسة ترمي إلى رفع جودة الخدمة الصحية وتقريب التخصصات الحساسة من المواطن.
في موازاة تطوير الهياكل الصحية، يعيش قطاع الصناعة الدوائية طفرة لافتة جعلته أحد أعمدة الأمن الصحي الوطني. فعدد المؤسسات المنتجة ارتفع إلى 233 مؤسسة، منها 138 متخصصة مباشرة في إنتاج الأدوية، ما سمح بتغطية 82 بالمائة من احتياجات السوق المحلية.
كما ساهمت هذه الديناميكية في تقليص فاتورة الاستيراد من 1.25 مليار دولار سنة 2022 إلى نحو 515 مليون دولار سنة 2024. ومع دراسة أكثر من 100 مشروع جديد، يتعزز دور الصناعة الدوائية في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وخلق فرص عمل، وإسناد الاقتصاد الوطني بقطاع واعد وعالي القيمة.
لم يعد الإنتاج الدوائي موجهًا للسوق المحلية فقط، بل بات يطرق أبواب أسواق الجوار الإفريقي بشكل متزايد، مدعومًا بالحصول على “شهادة النضج 3” من منظمة الصحة العالمية، التي تمنح الجزائر امتيازًا في تسويق منتجاتها خارج الحدود.
وقد برز هذا التوجه خلال المنتدى الإفريقي حول سلاسل الإمداد الصحية بجيبوتي، حيث عرضت الجزائر تجربتها في إنتاج مئات الأصناف القابلة للتصدير، بما في ذلك الأدوية المتقدمة والمستحضرات القابلة للحقن. هذا الاعتراف الدولي يعزّز الثقة في المنتوج المحلي ويفتح الطريق لتوسيع حصص الجزائر في سوق دوائي إفريقي يُعاني من نقص التغطية واعتماد كبير على المورد الأجنبي.
التحول الدوائي لم يقتصر على الإنتاج، بل شمل تعزيز التعاون الدولي عبر شراكات مع دول تمتلك خبرة واسعة على غرار الأردن، إضافة إلى مخابر أجنبية تعمل على نقل التكنولوجيا لإنتاج الأدوية المبتكرة كالأنسولين وأدوية السرطان.
كما تم تعزيز الرقابة والشفافية عبر المنصات الرقمية والمرصد الوطني لمتابعة توفر الأدوية في الوقت الحقيقي، وهو ما سمح للوزارة بضبط السوق ومنع المضاربة، إلى جانب تحسين مسار تسجيل الأدوية وتسهيل الاستثمار. هذه الخطوات التنظيمية تجعل القطاع أكثر جاذبية وتنافسية، بما يتماشى مع معايير الإنتاج العالمية.
ورغم هذا المسار الطموح، يبقى تطوير البحث العلمي ورفع نسبة الإدماج المحلي أكبر التحديات أمام الصناعة الدوائية الوطنية، خاصة مع استمرار اعتماد المصانع على المواد الأولية المستوردة.
غير أن الفرص تظل واسعة، خصوصًا في السوق الإفريقية التي تعرف طلبًا متزايدًا على الأدوية ذات الجودة والسعر المناسب. ومع توسع قدرات الإنتاج وتحسن البيئة الاستثمارية وإطلاق مشاريع جديدة، تقترب الجزائر من التحول إلى مركز إقليمي في صناعة الدواء، قادر على تحقيق السيادة الصحية داخليًا وتعزيز أمن القارة الصحي عبر صادرات مستقرة وشراكات مستدامة.



