في مثل هذا الشهر من كل عام، تستعيد الذاكرة الجماعية للجزائريين وهج اللحظة التي انكسر فيها قيد الاستعمار، لحظة انبثق فيها فجر الحرية من رحم المعاناة، وارتفع علم الوطن في سماء الاستقلال في الخامس من جويلية 1962. إنه الشهر الذي لا يُشبه سواه، شهر تشرّبت رمزيته بدماء الشهداء، وشهد العالم فيه أن الجزائر أبت أن تكون مستعمرة، وأصرّت أن تكون سيدة قرارها السياسي مهما كان الثمن. لكن التاريخ الذي خُط بالدماء، لا يقبل أن يتحول إلى مجرد ذكرى؛ فكل استقلال لا يُترجم إلى سيادة فعلية على الأرض، وعلى الاقتصاد، يظل ناقصا، مهددا بالاهتزاز مع كل أزمة.
لقد أثبتت التجارب أن السيادة لا تُقاس فقط بالرايات والحدود، وإنما أيضا بما هو أعمق وأخطر: القرار الاقتصادي. فالبلد الذي لا يتحكم في موارده، ولا يختار مسارات نموه، ولا يُدير موازنته دون وصاية، يبقى تحت رحمة الخارج، مهما علا صوت نشيده الوطني. وهنا، تصبح الاستدانة من الخارج فعلا يمسّ بجوهر السيادة، ويُعيد ربط مصير الدولة بتقلبات أسواق المال وتوصيات المؤسسات الدولية. لذلك، فإن المعركة التي تخوضها الجزائر اليوم هي امتداد لمعركة التحرير، ولكن بأدوات جديدة، عنوانها الأبرز: “اقتصاد لا يُستدان”.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل موقف الدولة الجزائرية، بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون، الذي جعل من رفض الاستدانة الخارجية مبدأ سياديا، لا يخضع للمزايدات ولا للإملاءات. فقد كان واضحا، منذ بداية ولايته، في إعلانه الصريح بأن الجزائر لن تركع للمؤسسات المالية الدولية، مهما اشتدت الضغوط. لأن الاستدانة قرض يُسدَّد، وتبعية تُكرّس، وشروط تُفرض، وأولويات وطنية تُؤجَّل لصالح ما يُملى من الخارج. وقد اختارت الجزائر، رغم صعوبة الظرف العالمي، أن تمشي على طريق أصعب، لكنه أشرف.
هذا الخيار لا يمكن فهمه خارج إطاره الدولي، حيث شهدت السنوات الأخيرة موجات متتالية من الأزمات: جائحة عالمية، حرب في أوكرانيا، توتر في أسواق الطاقة، ارتفاع أسعار الغذاء، وانهيارات مالية في دول عديدة. وقد اندفعت كثير من البلدان نحو الاقتراض المفرط، فوجدت نفسها في مستنقع التضخم والديون المشروطة، واضطرت للتنازل عن سياساتها الاجتماعية والخدماتية. أما الجزائر، فرغم كل هذه الرياح، فقد حافظت على توازنها المالي، وفضلت أن تعتمد على إمكانياتها الذاتية، بدل أن تفتح أبوابها أمام وصاية اقتصادية لا ترحم.
لكن رفض الاستدانة رافقته إصلاحات حقيقية على الأرض، أعادت تشكيل الرؤية الاقتصادية للدولة. فقد تمّ الدفع بقوة نحو تنويع الاقتصاد بعيدا عن المحروقات، وتمكين القطاعات البديلة كالفلاحة والصناعة والمؤسسات الناشئة. كما تم إنشاء الشباك الوحيد المركزي للعقار الاقتصادي، وتبسيط إجراءات الاستثمار، وتوسيع قاعدة الإنتاج الوطني، إلى جانب رقمنة الإدارة ومكافحة البيروقراطية. كلها خطوات تُؤسس لبنية اقتصادية قوية وقادرة على خلق الثروة دون الحاجة إلى القروض.
والدليل على نجاعة هذا التوجه، جاء من الداخل ومن الخارج أيضا، وتحديدا من الجهة التي لطالما وُصفت في الجزائر بأنها رمزية للتقشف والإملاءات: صندوق النقد الدولي. ففي آخر زيارة لبعثته إلى الجزائر، خرج رئيس البعثة ليصرّح أن “الآفاق الاقتصادية الجزائرية على المدى القصير إيجابية”، مشيرا إلى نمو بـ3.6% وانخفاض في التضخم إلى 4.1%. هذه الشهادة، رغم أنها جاءت متأخرة، تُعتبر اعترافا دوليا بأن الجزائر تسير على المسار الصحيح، وأن قرارها بعدم الاستدانة لم يكن عنادا، وإنما وعيا استراتيجيا بحماية استقلالها المالي.
وهنا يتضح أن الاقتصاد المقاوم، المنتج، والمبني على قرارات وطنية، هو الامتداد الطبيعي لثورة أول نوفمبر، وثمرة من ثمار تضحيات المجاهدين. فمن قاتل بالسلاح بالأمس لتحرير الأرض، يُقاتل اليوم بالعقل والإرادة والسياسة لحماية القرار الاقتصادي. والمواطن الجزائري، الذي يشتري منتجا محليا أو يستثمر جهدا في مشروع صغير، هو بذلك يُمارس شكلا جديدا من أشكال الوطنية، يُكمل به مسيرة السيادة التي لم تتوقف عند إعلان الاستقلال.
إن شهر جويلية أصبح لحظة سنوية لإعادة تأكيد معاني السيادة الفعلية. الجزائر اليوم لا تبيع أرضها، ولا قرارها، ولا تستدين باسم مستقبلها. هي تختار أن تبني بإمكانياتها، تُخطئ أحيانا وتصيب أحيانا، لكنها تملك شرف المحاولة بإرادتها. ولذلك، فإن شعار هذه المرحلة، والذي يجب أن يُردّده كل جزائري بفخر، هو: “جويلية.. وطن لا يُباع واقتصاد قوي لا يُستدان”.