مركب جيجل العملاق… ورقة الجزائر الرابحة لتقليص الاستيراد وحماية احتياطي الصرف

الحدث

تسعى الجزائر، في ظل التحديات الاقتصادية العالمية وارتفاع فاتورة الواردات الغذائية، إلى تبني مشاريع استراتيجية تقلص التبعية للأسواق الخارجية وتحافظ على احتياطي الصرف الأجنبي. ويأتي تدشين مركب “كتامة-أقري فود” بولاية جيجل كخطوة نوعية في هذا الاتجاه، حيث يمثل واحداً من أهم المشاريع الصناعية التي تراهن عليها الدولة لتحقيق الاكتفاء في الزيوت والأعلاف. فالمصنع الجديد بالاضافة الى دوره في تغطية جزء معتبر من الطلب المحلي، يشكل أيضاً آلية عملية لحماية الموارد المالية للبلاد، من خلال تقليص الاستيراد وتوجيه ما يتم توفيره من العملة الصعبة إلى مشاريع استثمارية أخرى تعزز مسار التنمية الوطنية.

يمثل إنتاج الزيوت الغذائية أبرز رهانات مركب “كتامة-أقري فود”، إذ تبلغ طاقته السنوية 36 ألف طن، وهو ما يغطي جزءاً كبيراً من الطلب المحلي الذي كان يُلبى تقليدياً عبر الاستيراد. فلطالما شكلت الزيوت أحد أهم المواد الأساسية المستوردة من الأسواق العالمية، وهو ما كان يثقل ميزان المدفوعات ويستنزف ملايين الدولارات سنوياً. ومع دخول هذا المصنع مرحلة الإنتاج الفعلي، ستتمكن الجزائر من تخفيض هذه الفاتورة تدريجياً، ما ينعكس مباشرة على احتياطي الصرف الأجنبي.

إلى جانب ذلك، فإن تنويع مصادر إنتاج الزيوت محلياً يتيح مرونة أكبر في مواجهة تقلبات السوق الدولية وارتفاع الأسعار، خاصة في أوقات الأزمات الغذائية أو الحروب التي عادة ما تعصف بسلاسل التوريد. فبدلاً من الارتهان لمورد واحد أو سوق خارجية محددة، ستصبح الجزائر قادرة على التحكم بشكل أكبر في احتياجاتها، مع ضمان استقرار التموين الوطني.

كما أن اعتماد المصنع على البذور الزيتية المحلية، إلى جانب ما سيتم استيراده بكميات مضبوطة للمعالجة، يخلق دورة اقتصادية متكاملة داخل البلاد، تُشرك المزارعين والمصنعين والموزعين في سلسلة إنتاج وطنية، تعزز القيمة المضافة وتفتح آفاقاً لتقليص الواردات إلى حدودها الدنيا.

دعم الأمن الغذائي وتثبيت الأسعار

ويساهم مركب “كتامة-أقري فود” في ترسيخ مفهوم الأمن الغذائي، من خلال ضمان توفر الزيوت والأعلاف بقدرات إنتاجية كبيرة على المستوى المحلي. فهذا التوجه يحد من المخاطر المرتبطة بالأسواق الدولية، حيث تشهد أسعار المواد الغذائية الأساسية تقلبات حادة قد تضع ميزانية الدولة والمستهلك تحت ضغط كبير. ومع إنتاج 36 ألف طن من الزيوت و100 ألف طن من الأعلاف سنوياً، يصبح السوق الوطني أقل عرضة للتذبذبات الخارجية، وأكثر قدرة على تلبية حاجات المستهلكين.

إضافة إلى ذلك، فإن استقرار التموين بالمواد الغذائية الأساسية ينعكس بشكل مباشر على الأسعار في السوق الداخلية. فحين تتراجع فاتورة الاستيراد ويتعزز العرض المحلي، تقل احتمالات المضاربة والاحتكار، ويصبح بإمكان السلطات العمومية التحكم بشكل أفضل في الكلفة النهائية التي يتحملها المواطن. وبذلك، لا يقتصر أثر المصنع على خفض الواردات فقط، بل يمتد ليشمل تحسين القدرة الشرائية والحفاظ على التوازن الاجتماعي.

كما أن المشروع يفتح المجال أمام سلسلة من المبادرات الموازية، مثل دعم الفلاحين لتوسيع زراعة البذور الزيتية وتطوير برامج إنتاج محلية مرتبطة بالمركب. هذه الخطوة لا تعزز الأمن الغذائي فحسب، بل تكرس نموذجاً جديداً من الاكتفاء الذاتي، يربط بين الإنتاج الزراعي والتحويل الصناعي، ويقلص تدريجياً الحاجة إلى الأسواق الخارجية.

تقليص الضغط على احتياطي الصرف الأجنبي

يُعد تقليص فاتورة الاستيراد أحد الأهداف الاستراتيجية لإنشاء مركب “كتامة-أقري فود”، إذ أن الجزائر كانت تعتمد لسنوات طويلة على استيراد كميات ضخمة من الزيوت الغذائية والأعلاف لتغطية احتياجات السوق المحلية. هذا الاعتماد كان يستنزف سنوياً مئات الملايين من الدولارات من احتياطي الصرف الأجنبي، وهو ما شكل عبئاً ثقيلاً على ميزان المدفوعات في فترات تراجع أسعار النفط. ومع دخول المركب حيز الإنتاج، سيتم تحويل جزء كبير من هذه المبالغ إلى استثمارات داخلية تعود بالنفع المباشر على الاقتصاد الوطني.

توفير 36 ألف طن من الزيوت محلياً يعني عملياً استبدال فاتورة استيراد كبيرة بمنتوج محلي الصنع، ما يسمح بالحفاظ على العملة الصعبة لمجالات أخرى أكثر أولوية مثل استيراد الأدوية أو التجهيزات التكنولوجية. والأمر نفسه ينطبق على الأعلاف التي تعد من بين أكبر بنود الاستيراد في القطاع الفلاحي، حيث أن إنتاج 100 ألف طن محلياً سيساهم في تقليص الضغط المالي الناجم عن استيراد هذه المادة الحيوية.

وبالنظر إلى قدرة المركب على الاستمرار في الإنتاج بوتيرة عالية، فإن أثره لن يكون مرحلياً فقط بل هيكلياً، إذ يضمن استقراراً طويل الأمد لاحتياطي الصرف. هذا الاستقرار يوفر للحكومة هامش مناورة أوسع في تسيير سياستها المالية، ويمنح الاقتصاد الوطني حماية إضافية من الصدمات الخارجية، خاصة في ظل تقلبات أسعار الطاقة على المستوى العالمي.

نحو بناء قاعدة إنتاجية بديلة

يشكل مركب “كتامة-أقري فود” خطوة عملية في مسار بناء قاعدة إنتاجية بديلة عن الاستيراد، إذ أن الدولة تراهن على هذا النوع من المشاريع الاستراتيجية لإرساء منظومة اقتصادية أكثر استقلالية. فالرهان لا يقتصر على تغطية الطلب المحلي من الزيوت والأعلاف فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى بناء صناعة غذائية متكاملة تعتمد على المواد الأولية المتوفرة وطنياً، ما يعزز قيمة الإنتاج المحلي ويرسخ مفهوم الأمن الغذائي كخيار سيادي.

هذا التوجه يفتح المجال أمام ديناميكية اقتصادية جديدة، حيث يمكن أن تتحول الجزائر من مستورد رئيسي للزيوت والأعلاف إلى بلد مكتفٍ ذاتياً وربما مصدّر لهذه المنتجات في المستقبل. ومع تزايد الحاجة الإقليمية لمثل هذه المواد الأساسية، فإن الجزائر مؤهلة لاحتلال موقع تنافسي داخل الأسواق الإفريقية والمتوسطية، خاصة في ظل الاتفاقيات التجارية التي تسهّل حركة السلع عبر الحدود.

إن الاستثمار في مثل هذه المشاريع يعكس وعياً متزايداً بضرورة إعادة توجيه الموارد المالية الوطنية نحو قطاعات إنتاجية قادرة على خلق القيمة المضافة محلياً. وهذا ما يجعل المركب الجديد ليس مجرد مصنع تقني لإنتاج المواد الغذائية، بل حلقة محورية ضمن استراتيجية الدولة للحفاظ على احتياطي الصرف الأجنبي، وبناء اقتصاد وطني أكثر تنوعاً وصلابة في مواجهة التحديات المستقبلية.