حديقة الحامة… التاريخ ينمو في أحضان الطبيعة

معالم جزائرية

في قلب العاصمة الجزائرية، وعلى سفح جبل يطل على خليج البحر الأبيض المتوسط، وُلدت واحدة من أعرق الحدائق في العالم: الحديقة التجريبية الحامة. تعود نشأتها إلى عام 1832، إبان فترة الاستعمار الفرنسي، حيث أُسست بداية كمشتل زراعي صغير يمتد على مساحة محدودة، وكان هدفه توفير نباتات لأغراض علمية وزراعية محضة.

ومع مرور السنوات، توسعت الحديقة تدريجيا لتتحول إلى فضاء علمي تجريبي يأوي عشرات الأنواع النباتية، ويستقطب اهتمام الباحثين والمهندسين الزراعيين. أصبحت الحامة معروفة في الأوساط العلمية الأوروبية كأحد أهم مواقع التجريب الزراعي، بفضل تنوعها البيئي وموقعها الاستراتيجي المميز.

كانت الحديقة مركزا حيويا لدراسة تأثير المناخ المتوسطي على النباتات المستقدمة من القارات الأخرى، خاصة من أمريكا الجنوبية وآسيا الاستوائية. وكان لها دور فاعل في تطوير المعارف النباتية، واحتضان تجارب زراعية واسعة النطاق، مما أكسبها بعدا علميا رفيعا.

وتدريجيا، بدأت الحديقة تكتسب طابعا تراثيا وثقافيا يتجاوز أدوارها العلمية. ومع الاعتراف المحلي والدولي بأهميتها، أصبحت الحامة معلما تاريخيا محميا ومصنفا كموقع وطني يجب الحفاظ عليه، لما تمثله من ذاكرة بيئية وثقافية فريدة تمتد عبر قرنين من الزمن.

كنز نباتي في قلب العاصمة

وتُعد حديقة الحامة اليوم متحفا نباتيا حيا، يحتضن أكثر من 2500 نوع من النباتات المختلفة، من بينها أنواع نادرة واستوائية نُقلت من أربع قارات. ويُقدَّر عدد أشجار النخيل وحدها بأكثر من 1000 نخلة، إلى جانب نباتات طبية وزهرية وزينة تشكل بانوراما بيئية غنية وفريدة.

وتتوزع الحديقة على طرازين معماريين: الأول فرنسي هندسي منظم، والثاني إنجليزي عشوائي طبيعي، ما يمنح الزائر تجربة مزدوجة بين الدقة والانسجام العفوي. هذا التمازج المعماري ينعكس على طريقة تنسيق النباتات والممرات والمسطحات المائية داخل الحديقة.

كما تتنوع النباتات بين مناخات مختلفة، منها المتوسطية والاستوائية والصحراوية، مما يمنح الزائر فرصة للتنقل بيئيا بين قارات متعددة دون مغادرة المكان. هذا التنوع جعل من الحامة وجهة مفضلة للعلماء، وللمهتمين بالتنوع البيولوجي.

وتوفر الحديقة أيضا بيئة خاصة للزواحف والطيور وبعض الثدييات، ضمن مساحات محمية، ما يعزز بعدها البيئي ويحولها إلى محمية مصغرة في قلب العاصمة، تستقطب الكبار والصغار على حد سواء.

مساحة للتعليم والتجربة العلمية

ولم يقتصر دور الحامة على العرض البصري أو الجذب السياحي، اذ تحولت إلى مركز حقيقي للتكوين العلمي والبحث الزراعي، لا سيما بعد أن أصبحت تحت إشراف وزارة الفلاحة والتنمية الريفية. وقد استفادت الجامعات الجزائرية من هذا الفضاء الفريد في تنظيم البحوث والمشاريع العلمية.

وتُعد الحديقة حقلا تجريبيا حيا يُستخدم لتدريب الطلبة في مجالات الزراعة والبيئة وعلم النبات، كما تُحتضن داخلها أبحاث مرتبطة بالزراعة الحضرية والمقاومة البيولوجية والجغرافيا النباتية.

وتنظم الحديقة دورات تكوينية وزيارات مدرسية موجهة لفائدة التلاميذ وطلبة المعاهد المتخصصة، ما يعزز الوعي البيئي في المجتمع، ويحول الحديقة إلى مؤسسة تعليمية في الهواء الطلق.

وتُعد الحامة نموذجا يُحتذى به في الدمج بين البيئة والتعليم، حيث نجحت في المزج بين التراث الطبيعي والمقاربة التربوية، ما يمنحها طابعا مؤسسيا يتجاوز حدود الترفيه إلى الاستثمار في الإنسان والمعرفة.

فضاء سياحي وثقافي مفتوح للجميع

كما أصبحت الحديقة وجهة سياحية مفضلة للجزائريين والسياح الأجانب، بفضل موقعها الساحر وجمالها الطبيعي الأخّاذ. وتستقبل يوميا آلاف الزوار من مختلف الفئات العمرية، خاصة في عطلات نهاية الأسبوع والمناسبات الرسمية.

ويُعد موقع الحديقة المطل على خليج الجزائر، إضافة إلى تصميمها الفريد، عامل جذب رئيسي للمصورين والفنانين، حيث توفر مناظر بانورامية فريدة ومساحات استرخاء ظلّت على مر الزمن مصدر إلهام للزوار.

وقد اكتسبت الحديقة شهرة عالمية بعد أن استُخدمت كموقع تصوير لفيلم “طرزان” سنة 1932، ما أدرجها ضمن قائمة المواقع السينمائية العالمية النادرة، وعزّز من حضورها الثقافي في الذاكرة العالمية.

ولا تقتصر النشاطات في الحامة على التجوال فقط، بل تُنظم فيها ورشات للأطفال، ومعارض للصور، وجولات بيئية موجهة، مما يثري التجربة السياحية ويحوّل الزيارة إلى رحلة ثقافية وبيئية متكاملة.

ترميم حديث لمعلم عريق

وعرفت الحديقة في تسعينيات القرن الماضي تراجعا كبيرا في نشاطها، بفعل الإهمال والصعوبات الأمنية والاقتصادية التي مرت بها البلاد، ما أثّر سلبا على حالتها النباتية والمعمارية، وكاد أن يُفقدها بريقها التاريخي.

وفي سنة 2001، أطلقت السلطات الجزائرية مشروع ترميم واسع النطاق، استمر إلى غاية 2009، بالتعاون مع شركاء محليين وأجانب، لإعادة الاعتبار لهذا الفضاء الفريد وتحويله إلى نموذج بيئي وسياحي راق.

وقد شملت الأشغال عمليات تنظيف شاملة، وإعادة تأهيل المساحات الخضراء، وترميم النوافير والممرات والمرافق الداخلية، مع الحفاظ على البنية التاريخية الأصلية للحديقة.

وأعيد افتتاح الحديقة رسميا في 14 أكتوبر 2009، بعد سنوات من الترميم، لتستعيد مكانتها كأحد أجمل المعالم البيئية والسياحية في الجزائر، وكرمز من رموز التوازن بين الإنسان والطبيعة، وذاكرة حية لحب الأرض والعناية بها.