الحديد الجزائري يستعد لاختراق أوروبا: هل تكون الجزائر وريث أوكرانيا في السوق الأوروبية؟

المجهر تقرير

مع اشتداد الأزمات الاقتصادية العالمية التي أفرزتها الحرب الروسية-الأوكرانية، بدأت الدول الأوروبية البحث عن بدائل استراتيجية لتأمين احتياجاتها من المواد الأساسية، ومنها الحديد والصلب.

وفي هذا السياق، تبرز الجزائر كواحدة من الدول القادرة على سد هذه الفجوة، مستفيدة من موقعها الجغرافي وقوة مواردها الطبيعية. شركة “توسيالي” للحديد والصلب، الرائدة في هذا القطاع، تتصدر المشهد بتحركات مدروسة واستراتيجية طموحة.

أزمة أوكرانيا تفتح الأبواب للجزائر

تعد أوكرانيا واحدة من أكبر موردي الحديد إلى السوق الأوروبية، إذ شكلت لسنوات طويلة عصبًا أساسيًا للصناعات الثقيلة والبنية التحتية في القارة، بفضل وفرة مواردها وجودة إنتاجها. غير أن الصراع الدائر على أراضيها منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية قلب موازين الإمدادات، وأدى إلى توقف شبه كامل للصادرات الأوكرانية من الحديد والصلب. هذا الوضع خلق أزمة غير مسبوقة لدى دول الاتحاد الأوروبي، التي تعتمد على الحديد الأوكراني لتلبية جزء كبير من احتياجاتها الصناعية، لا سيما في قطاع البناء والصناعات الثقيلة.

أمام هذا الواقع الجديد، وجدت أوروبا نفسها في سباق مع الزمن للبحث عن بدائل موثوقة وقريبة جغرافيًا، لتقليل التكاليف وضمان سرعة الإمدادات. هنا، ظهرت الجزائر كشريك طبيعي ومحتمل، بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي المطل على البحر المتوسط، وجودة مواردها المعدنية التي تضاهي أعلى المعايير العالمية. علاوة على ذلك، تمتلك الجزائر بنية تحتية صناعية متطورة نسبيًا في هذا القطاع، ممثلة في مصانع حديثة مثل “توسيالي”، التي أثبتت قدرتها على تقديم منتجات تنافسية في الأسواق العالمية.

الجزائر، التي كانت تُعرف تاريخيًا كمصدر رئيسي للمواد الخام، تجد الآن فرصة ذهبية لتعزيز مكانتها كقوة مصدرة للمنتجات النهائية ذات القيمة المضافة. هذه الفرصة هي نافذة استراتيجية تُمكن الجزائر من الدخول بقوة إلى السوق الأوروبية، وخلق شراكات طويلة الأمد تُعيد تعريف دورها في الخريطة الاقتصادية العالمية.

ألب توبكيوغلي، عضو مجلس إدارة “توسيالي”، أكد خلال مؤتمر صحفي أن الاتحاد الأوروبي أبدى استعداده للتعاون مع الجزائر لتعويض النقص الناتج عن الحرب. وأوضح أن هناك العديد من المزايا التي تجعل الجزائر خيارًا مثاليًا، مثل قربها الجغرافي الذي يقلل من تكاليف الشحن ويختصر زمن النقل إلى ثلاثة أيام فقط، مقارنة بـ40 يومًا للشحنات القادمة من آسيا. كما أشار إلى جودة الحديد الجزائري، التي أشاد بها الأوروبيون باعتبارها منافسة لأفضل المنتجات العالمية.

توسيالي” نموذج ريادي للتحول الصناعي

مصنع “توسيالي” في وهران يُعدّ تجسيدًا عمليًا للتحول الذي تطمح إليه الجزائر في قطاعها الصناعي. بدلاً من الاكتفاء بتصدير المواد الخام، مثل خام الحديد الذي كانت الجزائر تعتمد عليه لعقود طويلة، يسعى المصنع إلى إنتاج مواد ذات قيمة مضافة تعزز مكانة البلاد في الأسواق العالمية.

الصيف الماضي، نجح المصنع في تصدير 250 ألف طن من الألواح الحديدية إلى دول أوروبية مثل إسبانيا ورومانيا، وهي أسواق ذات معايير جودة صارمة تتطلب منتجات تلبي احتياجات الصناعات المختلفة. هذا الإنجاز يمثل شهادة على كفاءة منتجات “توسيالي” وقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية ومؤشر على ما يمكن للصناعة الجزائرية تحقيقه إذا توفرت الإرادة والتخطيط السليم.

إضافةً إلى ذلك، يمثل “توسيالي” نموذجًا للابتكار الصناعي في الجزائر، حيث يعتمد المصنع على تقنيات متطورة تقلل من التكاليف وترفع من كفاءة الإنتاج. هذه التكنولوجيا الحديثة تجعل منتجاته أكثر تنافسية مقارنة بالدول الأخرى، وهو ما يعزز قدرة الجزائر على دخول أسواق جديدة واستقطاب المزيد من الشركاء الدوليين.

الأهم من ذلك أن نجاح “توسيالي” يتجلى أيضا في تأثيره الأوسع على الاقتصاد المحلي. فمن خلال توفير فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وتحفيز الصناعات المكملة، يُسهم المصنع في خلق دورة اقتصادية إيجابية تدعم التنمية المستدامة. هذا الإنجاز يعكس إمكانية الجزائر للتحول إلى مركز صناعي إقليمي قادر على تلبية احتياجات الأسواق العالمية بمنتجات عالية الجودة، مما يعزز مكانتها كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي.

رؤية طموحة: مليار دولار في 2025

وتضع شركة “توسيالي” نصب أعينها هدفًا طموحًا يتمثل في تحقيق صادرات بقيمة مليار دولار بحلول عام 2025، وهو رقم يعكس تطلعات الجزائر لتعزيز مكانتها كقوة صناعية ناشئة في المنطقة. وصول الصادرات إلى هذا المستوى سيمثل نجاح للشركة وخطوة استراتيجية تسلط الضوء على الإمكانيات الهائلة للصناعة الجزائرية إذا ما استُثمرت بشكل صحيح.

حاليًا، تبلغ صادرات “توسيالي” 750 مليون دولار، وهي قيمة تُبرز الدور المتنامي للصناعات التحويلية في دعم الاقتصاد الوطني. ومع دخول وحدة إنتاج الدرفلة الجديدة حيز الخدمة في النصف الأول من عام 2026، ستشهد الشركة نقلة نوعية في قدراتها الإنتاجية، حيث ستمكنها هذه الوحدة من تصنيع منتجات متخصصة تلبي احتياجات القطاعات الحيوية مثل الصناعات الميكانيكية والكهرومنزلية.

علاوة على ذلك، يُعدّ هذا التوسع شهادة على رؤية الجزائر لتحويل صناعاتها إلى محرك للنمو الاقتصادي المستدام. فمن خلال التركيز على التصدير إلى الأسواق الأوروبية والأسواق الناشئة الأخرى، تعمل “توسيالي” على وضع الجزائر كلاعب رئيسي على خارطة التصنيع الإقليمي. وبفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي، تستطيع الجزائر تلبية الطلبات الدولية بسرعة وكفاءة، مما يمنحها ميزة تنافسية تجعلها في مصاف الدول الصناعية المتقدمة في المنطقة.

أبعاد استراتيجية أبعد من الحديد

الخطوة التي تقودها “توسيالي” تعد توسع في صناعة الحديد والصلب وجزء من خطة تسعى الجزائر من خلالها إلى تنويع مصادر دخلها الاقتصادي وتقليل الاعتماد المفرط على صادرات النفط والغاز. فمن خلال تطوير الصناعات التحويلية وتعزيز قدراتها الإنتاجية، تُظهر الجزائر رغبتها في بناء اقتصاد أكثر استقرارًا واستدامة، قادر على مواجهة تقلبات أسواق الطاقة العالمية.

كما أن النجاح الذي تحققه “توسيالي” يمكن أن يكون الحافز لشركات جزائرية أخرى للدخول إلى الأسواق الدولية بمنتجات ذات قيمة مضافة، مما يعزز من قدرة الجزائر على أن تصبح مركزًا إقليميًا للصناعات المتقدمة. هذه التحركات، إلى جانب الموقع الجغرافي المميز والبنية التحتية المتطورة نسبيًا، تضع الجزائر في موقع استراتيجي لجذب الاستثمارات الأجنبية وخلق شراكات اقتصادية طويلة الأمد تعزز مكانتها كلاعب رئيسي في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.

وبينما تستعد “توسيالي” لتحقيق هدفها الطموح، يبقى السؤال: هل تكون تجربة الشركة بداية لحقبة جديدة تجعل الجزائر شريكًا استراتيجيًا في السوق الأوروبية؟ النجاح في هذا المجال من شأنه أن يعزز الاقتصاد الجزائري، ويرسخ صورة الجزائر كقوة صاعدة قادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، وفتح أبواب جديدة للتعاون الاقتصادي مع العالم.