مع تصاعد الحرب بين الكيان الاسرائيلي وإيران في الأيام القليلة الماضية، تأثرت الأسواق العالمية بشكل كبير، حيث كانت التوترات الجيوسياسية هي المحرك الرئيسي لتحركات الأسعار في مختلف القطاعات.
وفي الوقت الذي استفادت فيه بعض القطاعات مثل الطاقة والدفاع من الاضطرابات، شهدت أخرى مثل السياحة والطيران والبنوك خسائر فادحة نتيجة للمخاوف من استمرار التصعيد وتأثيراته على الاقتصاد العالمي.
هذا التقرير يستعرض أبرز الرابحين والخاسرين في الأسواق خلال الأسبوع الأول من الصراع، وكيف أن التحولات الجيوسياسية أعادت تشكيل أولويات المستثمرين وأدت إلى تقلبات حادة في أسواق المال والسلع.
الرابحون من الحرب:
رغم القلق العام الذي يخيّم على الاقتصاد العالمي، إلا أن بعض القطاعات وجدت في الحرب الإسرائيلية الإيرانية فرصة لتحقيق مكاسب ملموسة. في مقدمة هؤلاء الرابحين جاءت أسواق الطاقة، إذ قفزت أسعار النفط فور اندلاع المواجهة العسكرية بنسبة قاربت 13%، مدفوعة بمخاوف إغلاق مضيق هرمز الذي يُعدّ أحد أهم شرايين نقل النفط في العالم. هذا الارتفاع السريع دفع بأسهم شركات الطاقة الكبرى مثل “شل” و”بي بي” إلى مستويات أعلى، وحقق لشركات التكرير والنفط الآسيوية، مثل “أويل إنديا” و”ONGC”، مكاسب فاقت 3% مدعومة بتحسن هوامش الأرباح وتوقعات بزيادة الإيرادات.
بالتوازي، استقبلت أسواق المعادن النفيسة التوترات كمؤشر على موجة لجوء جديدة إلى الملاذات الآمنة، حيث ارتفع الذهب بنسبة 1.6% ووصلت الأونصة إلى أكثر من 3400 دولار، في حين صعدت أسعار الفضة والبلاتين بشكل طفيف أيضًا، وسط إقبال البنوك المركزية والمستثمرين الأفراد على التحوّط من المخاطر الجيوسياسية.
كما انتعش قطاع الصناعات الدفاعية، بفعل ارتفاع الطلب المتوقع على أنظمة الصواريخ والطائرات المسيّرة. وشهدت أسهم شركات مثل “لوكهيد مارتن” و”آر تي إكس” و”راينميتال” الألمانية صعودا تجاوز 3%، في ظل توقعات بتزايد عقود التوريد لدول تبحث عن تعزيز جاهزيتها العسكرية وسط مشهد إقليمي شديد التقلّب.
ولم يكن الشحن البحري بعيدا عن ركب المستفيدين، فقد أدت التهديدات للممرات الحيوية إلى ارتفاع كبير في تكاليف الشحن والتأمين، حيث قفزت أسعار الشحن الآجلة من الشرق الأوسط إلى آسيا بنسبة 15%، كما زادت أقساط التأمين على ناقلات النفط بـ3 إلى 8 دولارات للبرميل. وارتفعت أسهم شركات كبرى مثل “فرونتلاين” و”كوسكو” بنسب تراوحت بين 5 و7.9%، نتيجة توقعات بطلب أعلى على خدمات النقل والتأمين في حال استمر التصعيد.
الخاسرون من الحرب:
على الضفة الأخرى من المشهد، ظهرت قطاعات عديدة كخاسر مباشر من التصعيد بين إسرائيل وإيران، حيث دفعت فاتورة القلق، وشلل الحركة، وارتفاع التكاليف. أسواق الأسهم كانت أول المتضررين، إذ شهدت البورصات العربية والعالمية تراجعات حادة فور تصاعد المواجهة. المؤشر العام للسوق السعودية خسر أكثر من 2% خلال أسبوع، فيما هبط مؤشر “EGX30” في مصر بنسبة تجاوزت 4.6% في أسوأ جلسة له منذ أكثر من عام، كما تراجعت مؤشرات أسواق الخليج ومصر تحت ضغط أسهم البنوك والطيران، وانخفض مؤشر “MSCI” لدول الخليج بنسبة 3.7%.
أما قطاع البنوك والخدمات المالية، فقد تأثر مباشرة بحالة عدم اليقين الإقليمي، مع انسحاب المستثمرين من الأسهم المصرفية تحوّطا من مخاطر التوسع في الحرب. في السعودية، انخفضت أسهم بنوك مثل “الراجحي” و”الأهلي السعودي”، وفي قطر خسر سهم “بنك قطر الوطني” أكثر من 4%، كما تراجعت أسهم البنوك الكبرى في مصر والكويت، متأثرة بتقلبات السوق وفقدان ثقة المستثمرين مؤقتا.
قطاع الطيران نال هو الآخر نصيبه من الخسائر، خاصة في منطقة الخليج، التي اضطرت بعض دولها لإغلاق الأجواء مؤقتا أو تغيير مسارات الطيران. فقدت “طيران الجزيرة” الكويتية نحو 18% من قيمتها السوقية خلال أيام، فيما تراجعت “العربية للطيران” بنسبة 10%. وعلى المستوى الدولي، هبطت أسهم شركات مثل “أميركان إيرلاينز” و”لوفتهانزا” و”رايان إير”، مع إلغاء أو تحويل أكثر من 650 رحلة، ما أدى إلى زيادة التكاليف التشغيلية وارتباك في برامج الرحلات.
وامتد الأثر إلى قطاع السياحة، الذي واجه شللا في الحجوزات، خاصة في الشرق الأوسط. إذ أُعلنت حالة الطوارئ في إسرائيل، وأُغلق مجالها الجوي بالكامل، بينما رفعت دول مثل بريطانيا تحذيرات السفر إلى أعلى درجاتها، مما خلّف عشرات الآلاف من السياح عالقين، وتسبّب في موجة إلغاءات للحجوزات في دول مجاورة مثل مصر والأردن ولبنان.
أما القطاع الاستهلاكي والسيارات، فقد تلقى ضربة غير مباشرة من الحرب، نتيجة تراجع الإنفاق الاستهلاكي وارتفاع تكاليف النقل والوقود. تراجعت أسهم شركات مثل “نايكي” و”تارجت” و”فورد”، في وقت فضل فيه المستثمرون الابتعاد عن الأصول عالية المخاطر، ما زاد من الضغوط على هذا القطاع الحيوي، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا.
هكذا، بينما فتحت الحرب أبواب الربح لبعض القطاعات، أغلقت أبواب الاستقرار والطلب أمام قطاعات أخرى تعاني هشاشة في أوقات الأزمات، لتبقى الخسارة مضاعفة عندما يتعلق الأمر بثقة المستهلك وسلاسة الحركة الاقتصادية.
قطاعات في المنطقة الرمادية: بين الترقب والتذبذب
ووسط حالة الاستقطاب الحاد بين القطاعات الرابحة والخاسرة، برزت بعض المجالات التي وقفت في منطقة رمادية، متأرجحة بين الترقب والتحفظ، دون أن تحسم موقعها بعد في ميزان الربح أو الخسارة. العملات المشفرة كانت من أبرز هذه القطاعات، إذ شهدت تقلبات حادة على وقع تصاعد التوتر. فقد تراجعت عملة “بتكوين” إلى ما دون 103,000 دولار مباشرة بعد الضربة الإسرائيلية، قبل أن تعاود الصعود تدريجيا لتصل إلى نحو 106,800 دولار، كما تعافت “إيثريوم” وسجّلت مكاسب قاربت 4%، وقفزت “سولانا” بنسبة 7.7% مع بداية الأسبوع الجديد. هذه الحركية تعكس مزيجا من التوجّس والتفاؤل في أوساط المتداولين، الذين يراقبون عن كثب أي توسّع في رقعة الصراع قد يهدد استقرار الأسواق التقليدية.
في السياق ذاته، بقيت أسواق السندات الأميركية في حالة من الحذر، حيث تحركت عائدات السندات ضمن نطاقات ضيقة خلال الأسبوع الأول من الحرب، دون تسجيل قفزات دراماتيكية. عائد السندات لأجل 10 سنوات بدأ عند 4.41%، ثم تراجع إلى 4.38%، قبل أن يعود تدريجيا إلى 4.40%، بينما سجلت السندات لأجل سنتين وثلاثين سنة تحركات مماثلة. هذه الاستجابة الهادئة تعكس تريّث المستثمرين، في انتظار وضوح الرؤية بشأن موقف الفيدرالي الأميركي من الفائدة، واحتمالات توسع التصعيد العسكري في المنطقة.
ويرى مراقبون أن هذا التذبذب في القطاعات الرمادية ليس إلا نتيجة لواقع “الانتظار الحذر” الذي يطبع حركة الأسواق حاليا، حيث تبقى كل التوقعات مرهونة بسيناريوهين رئيسيين: اتساع رقعة الحرب بما يشمل مضائق استراتيجية كهرمز، أو بدء انحسار التوتر لصالح المساعي الدبلوماسية. وفي الحالتين، ستتضح ملامح الاتجاه الحقيقي لهذه القطاعات في الأيام القليلة المقبلة.
هل تستمر التداعيات أم تنحسر؟
رغم حدة التحولات التي عاشتها الأسواق خلال الأسبوع الأول من الحرب بين إسرائيل وإيران، إلا أن الكثير من المحللين يرون أن هذه التفاعلات لا تزال آنية ومحدودة، وقد لا تدوم طويلا ما لم يتوسع نطاق النزاع. فبحسب تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز، فإن ردود الأفعال الأولية للأسواق عادة ما تكون حادة لكنها مؤقتة، كما حصل بعد هجمات 11 سبتمبر أو بدايات الحرب الروسية الأوكرانية. الارتفاع السريع في أسعار النفط، على سبيل المثال، الذي وصل إلى 13% في الساعات الأولى، تراجع تدريجيا إلى 7%، ما يعكس مرونة نسبية في استيعاب الصدمة.
لكنّ مستقبل الأسواق سيبقى معلّقا على تطورين رئيسيين: أولهما إمكانية توسّع رقعة الاشتباكات واندلاع مواجهات إقليمية أوسع، ما قد يدفع بأسعار الطاقة والشحن والتأمين إلى مستويات غير مسبوقة، ويؤثر بشكل مباشر على استقرار التجارة العالمية. وثانيهما إغلاق مضيق هرمز، وهو السيناريو الأخطر الذي قد يشلّ جزءا كبيرا من إمدادات النفط العالمية، ويحوّل الصدمة إلى أزمة اقتصادية كاملة الأبعاد.
في المقابل، إذا بقيت الحرب محدودة النطاق، فإن التوقعات تشير إلى إمكانية تراجع المخاوف تدريجيا، وعودة بعض المؤشرات إلى مستويات ما قبل التصعيد، لا سيما في ظل وجود فائض نسبي في سوق النفط العالمية، ومرونة البنوك المركزية في التعامل مع موجات التوتر.
وعليه، فإن الأسواق اليوم تقف عند مفترق طرق، تنتظر إشارات من السياسة أكثر مما تنتظرها من الاقتصاد. وكل يوم إضافي في الحرب يعمّق حالة الترقب، ويعيد ترتيب أولويات المستثمرين حول العالم، في مشهد لا يبدو أنه سيتّضح بالكامل إلا بعد حسم الميدان أو تبلور التسوية.