صواريخ “إيران” و”الكيان” تهز استقرار الاقتصاد

تقرير

في الوقت الذي كان فيه العالم يلتقط أنفاسه من أزمات متراكمة – من جائحة أنهكت الاقتصاد، إلى حرب أوكرانيا، إلى اضطرابات سلاسل التوريد – انفجر الشرق الأوسط من جديد، ولكن هذه المرة بين خصمين مباشرين: الكيان الصهيوني وإيران.

منذ 13 جوان 2025، تصاعد التوتر العسكري ليعيد شبح الحروب الواسعة إلى المنطقة، ويقذف بالأسواق إلى دوامة من الهلع. ومع كل صاروخ يسقط، ترتفع أسعار النفط، ويهتز الاستثمار، وتخيم مخاوف الركود على الاقتصادات الكبرى والناشئة على حد سواء. فهل نحن أمام أزمة اقتصادية عالمية جديدة تُصاغ ملامحها من رائحة البارود في الخليج؟

برميل النفط يقود العاصفة الاقتصادية

لم يكن التأثير الاقتصادي بحاجة إلى وقت طويل كي يظهر، فبمجرد أن دوّت أولى الضربات الجوية، تحركت أسواق الطاقة بسرعة استثنائية، كاشفة عن هشاشة التوازن العالمي في قطاع يعتبر شريان الحياة للاقتصاد العالمي. وفي قلب هذا الارتباك، كان برميل النفط هو أول من قاد العاصفة.

ارتفعت أسعار الخام بنسب فاقت 10% خلال أيام، متأثرة بالمخاوف من تعطل إمدادات النفط عبر الخليج، وخاصة في حال استهداف مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو خمس إمدادات العالم من الطاقة. هذه القفزة أعادت إلى السطح شبح التضخم الذي تحاول كبريات الدول كبحه منذ سنوات.

الأزمة في حال ما دامت أياما قد تطال الدول الصناعية والدول النامية على حد سواء؛ ففي حين قد تدفع أوروبا ثمنا فوريا عبر ارتفاع فواتير الطاقة، فإن العديد من الدول الإفريقية والآسيوية يمكن أن تعاني من تبعات ارتفاع تكاليف النقل والإنتاج. وفي خلفية المشهد، كانت بعض القوى الكبرى، وعلى رأسها السعودية وروسيا، تتابع المشهد ببراغماتية، مستثمرة في هذا الاضطراب لتعزيز مواقعها في سوق الطاقة.

المحللون لم يستبعدوا وصول الأسعار إلى حاجز 100 دولارا للبرميل إذا اتسعت رقعة الحرب أو تم تعطيل الملاحة في الخليج. وإذا تحقق هذا السيناريو، فإن موجة تضخمية عالمية جديدة قد تكون على الأبواب، ما سيجعل سياسات البنوك المركزية أمام اختبار صعب بين كبح الأسعار أو حماية النمو الاقتصادي المتعثر.

وبينما يشتعل الشرق الأوسط عسكريا، يشتعل الاقتصاد العالمي ماليا، ليُظهر من جديد أن الصراعات السياسية في هذه المنطقة ليست شأنا محليا، بل زلزالا يرتج له الكوكب بأسره.

الأسواق المالية… الهروب الكبير نحو الملاذات الآمنة

وإذا كان برميل النفط قد أشعل فتيل الأزمة، فإن أسواق المال العالمية لم تنتظر طويلا لتُظهر قلقها، إذ جاءت ردّة فعل المستثمرين سريعة وعنيفة، في مشهد يُذكّر بكبرى الأزمات الجيوسياسية التي عرفها العالم خلال العقدين الأخيرين.

ما إن بدأت الغارات المتبادلة بين الكيان الصهيوني وإيران، حتى اهتزت البورصات العالمية من آسيا إلى نيويورك، متراجعة بفعل موجة بيع جماعية، هرب فيها المستثمرون من الأصول الخطرة نحو الملاذات الآمنة. الذهب، كعادته، كان أول المستفيدين، حيث قفز إلى أعلى مستوياته في ثلاثة أشهر، تزامنا مع ارتفاع سعر الدولار وتراجع عملات الأسواق الناشئة.

العقود الآجلة للأسهم الأمريكية شهدت انخفاضا لافتا، إذ خسر مؤشر داو جونز نحو 1.8% في يوم واحد، فيما تراجع ستاندرد آند بورز بنسبة قاربت 0.7%. هذه الأرقام، رغم كونها أولية، كانت كافية لإثارة الذعر في الأسواق، التي لا تحتمل المفاجآت، خاصة في ظل التباطؤ الاقتصادي الذي يخيّم على المشهد العالمي.

الأخطر من ذلك، أن صناديق الاستثمار الكبرى أوقفت ضخ السيولة، وبدأت في إعادة هيكلة محافظها بسرعة، ما زاد من تراجع الثقة ورفع هامش المخاطر، خاصة بالنسبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على التمويل المستمر. وتكرّر بذلك مشهد الانكماش المفاجئ الذي شهدته الأسواق خلال بداية أزمة أوكرانيا.

ومع استمرار التوتر وغياب أفق التهدئة، باتت تصريحات القادة السياسيين – لا القرارات الاقتصادية – هي ما يوجّه الأسواق، ويؤثر في حركة الأموال عالميا. وهكذا، وجدت البورصات نفسها رهينة غرفة العمليات العسكرية، تنتظر بقلق ما ستسفر عنه الساعات القادمة.

التجارة العالمية في مرمى النيران

ولأن الأسواق لا تتحرك بمعزل عن حركة السلع والخدمات، فقد امتدّ الارتباك المالي سريعا إلى شرايين التجارة الدولية، التي بدأت تشعر بثقل الصدمة، ليس فقط في الأرقام، بل في الموانئ والمضائق وأعالي البحار.

ومع تعاظم المخاوف من تصعيد مفتوح بين إيران والكيان الصهيوني، ارتفعت تكاليف تأمين السفن التي تعبر مضيق هرمز بنسبة تجاوزت 20%، في ظرف قياسي. شركات الشحن الكبرى أعادت حساباتها، وبدأت في تغيير مساراتها أو فرض رسوم إضافية، خشية تعرض ناقلاتها لأي هجوم محتمل. هذه المستجدات انعكست فورا على كلفة النقل، خاصة في البضائع المرتبطة بالطاقة والمواد الخام.

دول آسيوية، وفي مقدمتها الصين والهند، باشرت مشاورات مع شركائها التجاريين لإعادة تقييم خطوط الإمداد، في ظل الحديث عن احتمال توقف مؤقت لبعض خطوط الشحن الرئيسية. أما الدول الفقيرة أو الأقل نموا، فقد باتت تواجه معضلة مزدوجة: ارتفاع الأسعار من جهة، وخطر التأخير أو الانقطاع من جهة أخرى.

الأثر لم يتوقف عند الشحن البحري، وإنما امتد إلى حركة الطيران، حيث أغلقت عدة شركات مساراتها الجوية فوق العراق وإيران والخليج، مما فرض ضغطا إضافيا على خطوط الملاحة الجوية، ورفع أسعار التذاكر وتأخر الشحنات الجوية ذات الطابع الاستعجالي.

وفي ظل غياب حل سياسي سريع، أصبحت التجارة الدولية تدفع ثمن الحرب دون أن تُطلق رصاصة واحدة على أسواقها. فحين تشتعل النيران في الجغرافيا، يتصاعد الدخان في الاقتصاد، وتتناثر نتائجه في الأسواق والاستهلاك والمعيشة اليومية.

بنوك مركزية في مأزق… الفائدة تحت النار

ومع كل اضطراب يصيب التجارة العالمية، تزداد حيرة صانعي القرار النقدي في العواصم الكبرى. فبين موجات التضخم التي تغذيها تكاليف الشحن والطاقة، وبين الحاجة إلى دعم اقتصادات متباطئة، وجدت البنوك المركزية نفسها في زاوية ضيقة يصعب الخروج منها دون خسائر.

قبل اندلاع الحرب، كانت المؤشرات تميل نحو اتجاه خفض تدريجي لأسعار الفائدة، خاصة بعد أشهر من تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا. لكن عودة أسعار النفط للارتفاع، وتعطل سلاسل الإمداد مجددا، قلبت الموازين، وجعلت خيار الخفض محفوفا بالمخاطر.

الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي باتا الآن أمام مفترق طرق: هل يستمران في سياسة التشدد النقدي لاحتواء موجة تضخم جديدة قد تكون أشد من سابقاتها؟ أم يغامران بدعم النمو المتآكل على حساب استقرار الأسعار؟ وبين هذا وذاك، تتحمل الأسواق عبء التردد واللايقين، في وقت حساس اقتصاديا وجيوسياسيا.

القلق يزداد في دول الجنوب العالمي، حيث يعني رفع الفائدة العالمية المزيد من الضغوط على المديونية، وارتفاع كلفة الاقتراض، مما يُضعف فرص الإنفاق التنموي ويقود إلى أزمات مالية متتالية. هذا ما بدأ يظهر بالفعل في بعض الدول الإفريقية واللاتينية، التي ارتفعت فيها نسب المخاطر الائتمانية منذ بداية التصعيد العسكري.

وفي غياب رؤية واضحة للمستقبل، يبدو أن أدوات السياسة النقدية لم تعد كافية وحدها لتهدئة العاصفة. فبين فائدة لا يمكن تخفيضها، وتضخم لا يمكن تجاهله، تقف البنوك المركزية عاجزة أمام نار الحرب التي تحرق حسابات الاقتصاد العالمي.

هل نحن على أبواب ركود عالمي جديد؟

وفي ظل هذه المعضلات النقدية والمالية، بدأ الحديث يتجاوز مستوى القلق من التضخم إلى الخوف من السيناريو الأسوأ: ركود عالمي جديد. فكل المؤشرات التي ترصدها المؤسسات المالية الكبرى تشير إلى تباطؤ واسع في النمو، تقوده الصدمات المتتالية، وفي مقدمتها الصدمة الجيوسياسية الحالية.

التوقعات الأخيرة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تم تعديلها للأسوأ، مع خفض معدلات النمو العالمي من 2.7% إلى 2.3% فقط لسنة 2025، وهي أدنى نسبة منذ عقود باستثناء سنوات الأزمات الكبرى. وبالنظر إلى أن هذا التراجع يأتي بعد سنوات من محاولات التعافي من جائحة كورونا وأزمة أوكرانيا، فإن أي صدمة إضافية – كالحرب الحالية – قد تكون كفيلة بدفع الاقتصادات إلى منطقة الانكماش.

وتزداد الخطورة في الاقتصادات النامية التي تفتقر إلى أدوات الحماية المالية، وتعتمد بشكل شبه كلي على الواردات، سواء في الغذاء أو الطاقة. فكل ارتفاع في الأسعار، وكل اضطراب في الإمدادات، ينعكس مباشرة على حياة المواطنين، ويهدد باندلاع أزمات اجتماعية واسعة، كما شهدنا في مرات سابقة.

والمقلق أن الأسواق لم تعد تتفاعل فقط مع البيانات الاقتصادية، وأصبحت رهينة التطورات السياسية والعسكرية. ولم يعد السؤال هل سينخفض النمو؟ بل إلى أي مدى؟، وهل تستطيع الحكومات تفادي الارتداد الاجتماعي المصاحب لهذا الركود؟

كل هذه المؤشرات توحي بأننا نعيش لحظة حرجة في عمر الاقتصاد العالمي، حيث لا يبدو أن هناك مفرا من الركود، إلا إن تم كبح التوتر قبل أن تتوسع رقعته، ويصبح الاقتصاد ضحية أخرى تُضاف إلى قائمة الخسائر المتنامية.