تعيش الجزائر تحوّلا نوعيا في المشهد الطاقوي جعلها في صدارة اهتمامات كبار المستثمرين العالميين، بفضل مناخ استثماري أكثر انفتاحا، وإصلاحات قانونية جريئة، واستقرار سياسي يراهن عليه دوليا. هذا التحول جاء نتيجة رؤية استراتيجية واضحة وضعتها الدولة لتعزيز موقع الجزائر كفاعل طاقوي موثوق ومورد آمن في زمن تتغير فيه خرائط الطاقة العالمية.
ولعل استثمارات شركة “إيني” الإيطالية، التي تجاوزت حاجز 8 مليارات دولار، تمثّل خير دليل على عودة الثقة في “الوجهة الجزائرية” كقطب حيوي للاستثمار الطاقوي، ليس فقط في الغاز والنفط، بل أيضا في الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، مما يعكس تحوّل الجزائر من مجرّد منتج تقليدي إلى شريك استراتيجي في معادلات الطاقة المستقبلية.
وإذا كانت استثمارات “إيني” الإيطالية قد جذبت الأضواء مؤخرا، فإنها في الواقع تندرج ضمن موجة أوسع من التوجه العالمي نحو الجزائر كقطب طاقوي واعد في المتوسط وإفريقيا، مدفوعة بإصلاحات واقعية وقرارات سيادية شجعت الشركاء على التموقع مجددا داخل السوق الجزائرية.
قانون محروقات جديد… بوابة الثقة والانطلاقة
أحدثت الجزائر قفزة نوعية على مستوى الإطار التشريعي للاستثمار في مجال الطاقة من خلال القانون 19-13، الذي جاء ليلبي تطلعات الشركاء الأجانب ويكسر الحواجز البيروقراطية التي كانت تعيق الانطلاق. “القانون الجديد قدّم مزايا تنافسية حقيقية”، كما يقول مراقبون، أبرزها مرونة العقود، وتحفيزات جبائية، وتقاسم عادل للمخاطر.
هذا الإطار التشريعي أعاد الجزائر إلى واجهة المنافسة في سوق الطاقة العالمية، لا سيما في ظل بحث أوروبا عن بدائل موثوقة للغاز الروسي. وقد سمح باستقطاب عمالقة مثل “إيني” التي ذهبت نحو شراكة طويلة المدى تشمل التنقيب والتطوير والتصدير.
وقد شكل العقد الأخير الموقع بين “سوناطراك” و”إيني” في حوض بركين، لاستغلال حقل “زمول الكبر”، نموذجا حيا لهذه السياسة الجديدة، حيث تمتد الاتفاقية لـ30 سنة قابلة للتمديد، وتتضمن استثمارات تتجاوز 1.3 مليار دولار.
اللافت أن المشروع يشمل استغلال الغاز والنفط، ويفتح آفاقا لتطوير تقنيات الإنتاج، والاعتماد على المؤسسات المحلية، ونقل التكنولوجيا، وهو ما يعكس فلسفة الجزائر الجديدة القائمة على الشراكة المتوازنة لا الاستغلال الأحادي.
وإذا كان القانون الجديد قد فتح الباب أمام استثمارات نوعية، فإن ما يعطي لهذه الطفرة التشريعية معناها الحقيقي هو تجسيدها العملي على الأرض، من خلال مشاريع استراتيجية تستثمر فيها شركات عالمية كبرى، وفي مقدمتها “إيني”، التي شرعت فعليا في ضخ مليارات الدولارات، لتكون بذلك الشريك الأكثر ديناميكية في المشهد الطاقوي الجزائري.
“إيني”… شراكة بنَفَس استراتيجي لا تجاري
ما يميز الحضور الإيطالي في قطاع الطاقة بالجزائر أنه “قائم على رؤية استراتيجية عميقة وطويلة الأمد”، كما أكده المدير التنفيذي لـ”إيني”، كلاوديو ديسكالزي. ففي الوقت الذي يبحث فيه البعض عن الأرباح السريعة، تفضل الشركة الإيطالية الاستثمار في مشاريع بنيوية تمتد لعقود، مثل مشروع “زمول الكبر” بولاية ورقلة.
تتجاوز القيمة الإجمالية لاستثمارات “إيني” في الجزائر 8 مليارات دولار، وتتوزع على عدة مشاريع تشمل الاستكشاف، الإنتاج، التكرير، بل وحتى الطاقات المتجددة، وهو ما يجعلها أحد أهم الفاعلين الدوليين في الجزائر إلى جانب سوناطراك.
وتشير الاتفاقيات الأخيرة إلى نية الطرفين رفع القدرة الإنتاجية من الغاز الطبيعي بما يتراوح بين 5 و7 مليارات متر مكعب سنويا، وهي كميات موجهة في جزء منها للتصدير نحو أوروبا، ما يعزز موقع الجزائر كمورد طاقوي استراتيجي في قلب القارة العجوز.
ولم تكتف “إيني” بالشق الطاقوي الكلاسيكي، وشرعت في تنفيذ مشاريع لإزالة الكربون، وتطوير الطاقات المتجددة، على غرار الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية، ما يجعل من هذه الشراكة نموذجا متقدّما لـ”التحول الطاقوي الآمن والمتكامل”.
وبينما تتغير معادلات الطاقة في العالم، تبقى هذه الشراكة عنوانا لتحول نوعي: من علاقة مورد-مستهلك إلى علاقة “ندّية” تستند إلى المصلحة المشتركة، والتنمية المستدامة، والتزام حقيقي بنقل التكنولوجيا وبناء القدرات.
وإذا كانت شراكة الجزائر مع “إيني” قد شكلت النموذج الأبرز لهذا التوجه الطاقوي الجديد، فإنها ليست سوى جزء من رؤية أشمل تسعى من خلالها الجزائر إلى تنويع شركائها، وتوسيع قاعدتها الإنتاجية، وتعزيز مكانتها كمورد موثوق للطاقة، في عالم تتغير فيه التحالفات وتتجدد فيه خرائط الإمداد.
سوناطراك… العمود الفقري لمعادلة الثقة والاستقرار
بالمقابل، شركة سوناطراك، منذ نشأتها سنة 1963، ثم تأميمها سنة 1971، تمثل القاطرة التي تقود قطاع الطاقة في الجزائر. ولم يكن لهذه الشراكات الكبرى أن تتم أو تتطور دون الدور المحوري الذي تلعبه هذه الشركة الوطنية، سواء من حيث البنية التحتية، أو الكفاءات، أو شبكة العلاقات الدولية.
إيني، توتال، أوكسيدنتال، سيبسا، وينترشال… كل هذه الأسماء العالمية اختارت الجزائر وجهة لاستثماراتها، لأنها وجدت في “سوناطراك” شريكا جادا، يمتلك من الخبرة والقدرة ما يسمح بتحويل العقود إلى مشاريع ملموسة، و”تحويل الأرض إلى طاقة”.
كما أن الشركة تولي أهمية كبرى للمحتوى المحلي في مشاريعها المشتركة، وهو ما يعزز النسيج الاقتصادي الوطني، ويخلق فرص عمل نوعية، ويُسهم في “ترسيخ الطابع السيادي لصناعة الطاقة”.
إضافة إلى ذلك، فإن انخراط “سوناطراك” في مشاريع إزالة الكربون وتطوير الهيدروجين الأخضر يبرز وعيها بالتحولات المناخية، وسعيها إلى التموقع ضمن مستقبل الطاقة لا ماضيها فقط.
وبفضل هذا المسار، أصبحت “سوناطراك” اليوم واحدة من أهم الفاعلين في السوق المتوسطية والإفريقية، مما يجعلها أساسا صلبا ترتكز عليه الجزائر في طموحها لتكون “قوة طاقوية إقليمية ودولية”.
الرهان على الطاقات المتجددة… تنويع مدروس واستشراف ذكي
الجزائر أدركت أن مستقبل الطاقة لا يمكن أن يظل حبيس الموارد التقليدية، ولهذا أطلقت ديناميكية جديدة لتطوير مشاريع الطاقات المتجددة، وفي مقدمتها الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر.
شركة “إيني”، إلى جانب استثماراتها في الغاز والنفط، شرعت بالتعاون مع سوناطراك في مشاريع لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، وكذا إزالة الكربون، بما في ذلك حماية الغابات والتشجير، ما يبرز “التحول الأخضر” كأحد أعمدة الشراكة الجديدة.
كما راهنت الجزائر على مشروع “South H2 Corridor” لنقل الهيدروجين الأخضر نحو أوروبا، والذي يجعل منها فاعلا رئيسيا في سوق الطاقة المستقبلية، ويعكس طموحها للتحول إلى “محور إقليمي للطاقة النظيفة”.
هذه المشاريع، التي ترافقها بنى تحتية وتكنولوجيات متطورة، تعزز الأمن الطاقوي، وتمنح الجزائر تموقعا استراتيجيا في التوازنات الطاقوية المقبلة، خاصة في ظل تزايد الطلب الأوروبي على بدائل طاقوية نظيفة وآمنة.
ومع هذه الرؤية الشاملة، تتحول الجزائر من مزوّد تقليدي إلى شريك مستقبلي في بناء منظومة طاقوية عالمية متوازنة ومستدامة.
وهكذا، يبدو أن الجزائر تسير بخطى واثقة نحو تثبيت مكانتها كقطب طاقوي إقليمي ودولي، مدفوعة بإصلاحات استراتيجية وشراكات قوية مع كبريات الشركات العالمية مثل “إيني”. فبين وفرة الموارد الطبيعية، والإرادة السياسية الصلبة، والتحولات القانونية المحفزة للاستثمار، تبرز البلاد اليوم كوجهة مفضلة للاستثمارات الطاقوية الذكية والمستدامة.